"مدينة الله" رواية الروائي والقاص الفلسطيني الدكتور حسن حمي، عن منشورات المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، ومن غير القدس يمكن أن تكون مدينة الله؟!
You are here
قراءة كتاب مدينة الله
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

مدينة الله
الصفحة رقم: 4
سلوان
أعذرني،ما عدت قادراً على انتظار بريدك الذي لا يأتي، لعلك على سفر، أو أن متاعب العمل تكاثرت عليك، أو لعل مرضاً ألمَّ بك، لا سمح الله· اكتب إليَّ، أو هاتفني كي تزداد الروح صفاء، وأنا هنا، في بلاد الضوء، والفيء، والدهشة الضافية·
ها أنذا، أفتكُّ روحي من أسر أحياء القدس، من جمال الحارات، والبيوت، والشرفات، والساحات، والأبواب، والأشجار، والصباحات، والمساءات، والناس·· وأمضي نحو نبعة سلوان، تماماً كما قلت لي·· أمشي وسط أجمات القصب التي تحاذي الساقية الآتية قدوماً من النبعة العالية، ساقية صافية، غرّيدة، تمرُّ بالبيوت كساعي البريد، مسيّجة بأعواد القصب المتعانقة في الأعالي مثل الدوالي، تترك خريرها العذب أمام كل بيت مقدسي تمرّ به هنا، وقرب الشرفات موسيقى حباها الله بالوقع الرنيم·· أماشيها وكأنها طفلة تتهجى حروف الأبجدية·· فأصعد معها وقد ضاففتها البيوت، وشجيرات الورد، وأرى اندفاعات الماء وتقلبه بين ضفتين نظيفتين زاهيتن مثل جديلتي طفلة أفلتت للتو من بين يدي أمها الماشطة··
هنا وقرب نبعة سلوان تتسع الأمكنة، وتبدو أسطحة البيوت رويداً رويداً، وهنا تبدو التلال كعش من الخضرة العابقة، تمر بي عربات جر، وسيارات، ونساء يحملن في السلال التين والرمان وأكواز الصبارة·· وجوههن أشبه بهالات الضوء التي مسَّتها الحمرة القانية·· وثيابهن المحتشدة بالتطريز أشبه بالحقول التي زينتها الألوان الآسرة؛ يا لهذا الصباح الندي، ويا لهذا الضوء الذي يتشكل على ريث ومهل شديدين، ويا لوقع الخطا فوق بلاطات الحجارة السود، ويا لتغريد الطيور الدانية·· ويا لسعادتي بهذا البكور·· ونظرات الناس تلفني، والهمهمات تصل إليَّ بالتحية والسلام·· ويا لهذا المنظر البديع الفتان·· فها هي نبعة سلوان، دائرة ماء وسيعة، لمعانها يخطف الأبصار، وحصاها سجادة ذهبية الألوان، تتحرك صفحة الماء، فيتحرك الحصى في تماوجات تشبه حمحمة الخيل قبل الطراد، لكأن الماء يهمُّ بالصعود أو الجولان·· صخور وردية ندَّاهة لكأن الصباح أضاءها، أو لكأن الضباب الأبيض الرخي خصها بالبيان·· هنا، وحول النبعة أحواض، وقنوات، وحجارة ناهضة على شكل عتبات، وأشجار تين، وصفصاف، وزيزفون، وخروب، وأجمات من القصب كيفما تمايلت تهبُّ منها أنسام شجيرات الريحان والغار والطيّون·· وحين أدنو أرى صبايا فارعات الطول يدنين جرارهن من صفحة الماء، ثم ينهضن بها، وما من أحد يدري هل النبعة أعطت ماءها للجرار، أم أن الجرار استلت ماءها قطرة قطرة حتى ارتوت·· صبايا شبيهات بأعواد الخيزران·· يمضين في ذهاب وإياب ونشور واجتماع·· كأنهن الطيور، وعربات جرّ فوقها براميل ملونة من لدائن البلاستيك·· يملؤها شبان ينشدون أغنيات وأهازيج لا يدري المرء من يخصون بها·· الماء، أم الأشجار، أم الصبايا القمريات·