You are here

قراءة كتاب الموروث الثقافي في الأدب العربي الحديث - الروائي حنا مينة نموذجا

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الموروث الثقافي في الأدب العربي الحديث - الروائي حنا مينة نموذجا

الموروث الثقافي في الأدب العربي الحديث - الروائي حنا مينة نموذجا

لقد مثلت الرواية في العالم العربي إحدى سمات الفكر والتصور العربيين، إذ مثلها مثل الروايات العالمية، ساهمت في نقل التجربة العربية الإنسانية إلى العقل الإنساني رغم حداثتها مقارنة مع العالمية، ولقد أرجع النقاد تاريخ ميلادها إلى فترة1914 حيث ظهرت أول تجربة تمثل

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
دار النشر: دار المأمون
الصفحة رقم: 6

إنه يتأوه البحر ويخاطر فيه، وينافسه في نواحه كلما التقاه أو استأنس إليه" لم أدخل الخيمة، قرفصت على الشاطئ، جاءت الأمواج من الأعماق صوتها لم يصنع لي بهجة. أنا خنتها اليوم.. تمنيت لو يكف الموج، وتنقطع الشكاة. رحت عبر الظلمة المسدلة إلى امتداد مخيف، أرقب بزوغ ضوء على صفحة البحر"(31). يعرف كل شيء عن البحر، تلاعب أمواجه، هديرها، كلها عايشها بتجارب. إنه ضرورة لعيش الكائن الحي أو الميت، تغني الروائي المبدع وتجعله بثري قاموسه باستمرار، ثم يجب إغراق ما اكتسب في الأحلام، ولعلها أحلام طاردتنا منذ الصبا ونمت معنا ولم تتحقق. إنها بدايات مستمرة لنهايات لا نعرفها، إنها المتعة التي يعيشها تظل تتكرر في حياته، وقد يخبو أوارها إلاَّ تستمر حية هادئة،، حتى إذا حان أوانها خرجت لتعبر بصدق عن كل التجارب لكن في أسلوب جميل خلاق. "ولست أخشى على عذرية المتعة، ودهشة الاكتشاف، وبكارة الجدة، وبراءة التخيل في المطالعة وحدها، بل في الكتابة أيضا وقبلها في الحياة، هذه التي فقدنا طفولتنا إزاءها كفت عن إعطائنا نفسها، وصار النظر إليها بعيني كهل مأساة في التلقي والأداء وفاجعة في العيش نفسه، من أجل ذلك أسعى إلى التجدد دائما في التعامل مع الطبيعة والحياة والحب، ومعاشرة الناس وأجهد للحفاظ على الحلم حيا، إشفاقا عليه من أن يصير حلما ملغى، فإذا صار ملغى أجرب أن أحييه في حلم جديد، أو التقاط توق جديد يضرم في ذاتي النار المقدسة للحب والسفر والدهشة والانفعال. وبعبارة واحدة: للإندغام في الكون مرة أخرى"(32).
لم يعد خفيا مطلقا أن الذات تتبلور عند المبدع وتتسامق ولكنها تخفت أحيانا إلا أنه يحضرها لتلهمه، لتدفع بأفكاره إلى معاشرة أفكار الآخرين، ومن ثم تحيا فيه أنماط متعددة لحياة سالفة كان له فيها حضور الفقير الذي يرى أهله وذويه يتناوبون على التماس القوت، وطلب الرخاء، وأنى يتأتى لهم ذلك؟، ولذا تتجدد هذه المأساة في" زكريا المرسنلي" حين تفاجأ في ذاته، ويُتخلى عنه، أو إنه إحساس بالتخلي، فينأى بآلامه وأحزانه، وتعاوده التجربة فيقوم ليبعث الحياة في أوصالها متمسكا بالأمل، "بفتور تحركت أجمع الحطب، أشعلت النار وشويت السمك، التهمته بدون خبز، واستشعرت تقززا فرميت ماتبقى منه في الدغل، خطر لي أن أحمل السمكة الكبيرة إلى الغابة، وخطر لي أن أذهب بها إلى حارس المنارة"(33).
إن الرجل عايش بيوت القش وعايش صيد السمك، وعرف خطورة البحر مثلما سخاؤه وبهاؤه، وقد كان لصورة الصبي في الذات المبدعة وجود لم يتغير، ساير الكاتب وآنسه، ومضى معه في رحلته الطويلة حتى كان الانعكاس مصبوبا على الشخوص الذين رأى الأديب فيهم نفسه وهي تكبر، وتناضل، وتفرز آراء واتجاهات هي خلاصة ونتيجة لآلام الأديب.
وقد نحيد على الصواب إذا فصلنا بين الكتابة والكاتب بهؤلاء الذين يتحركون على ساحة الإبداع، "حيث إن الجامع بين الشخصيات المذكورة فيها اتصالها بالراوي أساسا وتتفاوت علاقاتها ببعضها بعد ذلك، فتتقاطع، وتتواصل بناء لتلك الصفة الأساسية، وكأنها إذ تأتي في خضم الهموم على ما تأتي مبالغة في الذاتية كإعلان للتحرر والانطلاق .. بيد أن ما تقبض عليه هذه الذات هنا هو الاجترار تحديدا"(34) تبقى طفولة المبدع مجسدة في ذاكرته، تفتعل المواقف كي تثبت وجودها، وتحيا في رحلة الكتابة، ومن ثم يحس القارئ بمفاجآت حيث نراه ينتقل عبر مسارات ملتوية خارج الرواية إلا أنها من صميم العمل الإبداعي، ومن ضرورياته التي تلح إلحاحا على وجودها خارج النص، تلك هي المجالات التي تظل محتكرة من طرف المؤلف فضاءً لتدخلاته "أنا لا أفعل لا يمكن أن أفعل.. لا أجرؤ، لا أقوى.. أمامهم.. والدك والآغاوات، وهنا .. ما رأيك بقتل زوجة المحامي(... )؟ وماذا فعلوا للقاتل ؟قف في النافذة تراه في طريقه إلى البيت كأن شيئا لم يكن ... وفي كل مكان يقفون له احتراما وينادونه عزت بيك.. وهو أيضا قاتل.. وماذا يفعل أولاده؟ يكرهونه، وماذا فعلت زوجة المحامي؟ قتلت خطأً ؟ نعم، كان يريد قتل زوجها، ولماذا؟لأنه وقف في المحاكم ضده في قضية إرث. والورثة من أقربائه ومن الفقراء.. تأمل.. لسنا وحدنا(35).
إنه مجال آخر، هامش آخر، تكرر فيه الذكريات ذاتها، تهرب من سلطة التوجه الممارسة على شخوص الرواية، تستنفر بين فينة وأخرى مكوناتها، وتطفو على السطح، لتحكي عن الظلم والقهر، وعن عهد ليس بعيدا عاينه المبدع واكتوى بناره، وبذلك نحس ونحن متمسكون بخيط الرواية أنها أفلتت، أو أنها حادت بنا عن السبيل الذي سرنا فيه معا، "وتفاجئ الرواية القارئ من حين لآخر بهوامش خارج النص متفاوتة، يحتكرها المؤلف لنفسه، فضاء لتدخلاته المتكررة، وتتميز هذه التدخلات بتخلي الراوي عن حياده"(36).
ولأننا متابعون للعمل الإبداعي، ومتذوقون، وساعون لاستيعابه، فإن هذا العمل يجعلنا ننطلق من واقع لاواقعية المبدع، حتى نتمكن من رصد ظاهرة تفاوت البطل وجميع الشخوص المشاركة له، علَّنا بذلك نتمكن من الوقوف على حيثيات الرواية ونصل إلى أبعادها، إلا أن الأفكار الجاهزة تظل حاجزا قائما يهيب بنا أن نتملص من تدخلات الراوي(المبدع)، فهو يعذبنا بحُضوره كما صورته مستمرة، "فكل كاتب كيفما كان نوعه أو جنس الخطاب الذي يكتب فيه، له تصور معين عن الواقع والأشياء والموضوعات التي تحيط به، كما أن لكل مبدع رؤية محددة. (بعض النظر عن أي حكم أو نعت )للعالم وانطلاقا منها يمارس عمله ووظيفته الكتابية أو الإبداعية"(37). ذلك هو إحساس بالزمن الذي انطلق معه، منذ التفكير في الكتابة، وبذلك تتملك الكاتب روح سلطوية تعاين جميع شخوصه وتظهرهم انطلاقا من رؤيته الخلفية "أن لا أبرر شيئا .. ولن أحزن إذا قتل أحد الفلاحين الآغا الذي يضربه، وأعدك إذا شنقوا آغا قتل فلاحة أفرح، لكن الفلاحين لا يقتلون، لا يفعلون شيئا غير الوشاية ببعضهم والنكاية، أحدهم بالآخر والجميع يخافون وخاضعون لأسيادهم كالغنم .. ووكيلنا، حتى وكيلنا، يضربهم رأيته الصيف الماضي يضرب فلاحا لأنه سرق الزيتون ليلا .. كنت في القرية ولم أتمالك نفسي، وأوقفت الضرب بعد أن أوثق الفلاح العجوز وحبسه ليسلمه إلى الدرك .. ثم كلمني على انفراد . قال لي :"أرجوك يا سيدتي الصغيرة، لا تتدخلي بعد الآن .. إذا رفعنا العصا عنهم رفعوها علينا "(38).

Pages