You are here

قراءة كتاب الموروث الثقافي في الأدب العربي الحديث - الروائي حنا مينة نموذجا

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الموروث الثقافي في الأدب العربي الحديث - الروائي حنا مينة نموذجا

الموروث الثقافي في الأدب العربي الحديث - الروائي حنا مينة نموذجا

لقد مثلت الرواية في العالم العربي إحدى سمات الفكر والتصور العربيين، إذ مثلها مثل الروايات العالمية، ساهمت في نقل التجربة العربية الإنسانية إلى العقل الإنساني رغم حداثتها مقارنة مع العالمية، ولقد أرجع النقاد تاريخ ميلادها إلى فترة1914 حيث ظهرت أول تجربة تمثل

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
دار النشر: دار المأمون
الصفحة رقم: 10

أثر البيئة في الروايتين
إن المكان لا يكون منعزلا عن باقي عناصر السرد، وإنما يدخل في علاقات متعددة مع المكونات الحكائية الأخرى للسرد كالشخصيات والأحداث والرؤيات السردية...
وعدم النظر إليه ضمن هذه العلاقات والصلات التي يقيمها يجعل من العسير فهم الدور النصي الذي ينهض به الفضاء الروائي داخل السرد. ولقد قام المنظرون الألمان بعد "روبير بيتش"R . PETCSH(1934) بالتمييز بين مكانين متعارضين هما Lokal و Rouni أما الأول فقد عنى به المكان المحدد الذي تضبطه الإشارات الاختيارية كالمقدسات والأعداد ومشاعر الشخصيات في الرواية . وانطلاقا من هذه التميزات ومدعما إياها بالأمثلة الملموسة، قام هيرمان مييرH. MEYER بإبراز كيف أن الفضاء يلعب دورا مهما وأساسيا في التخيلالروائي"(55).
أما الفرنسيان جورج بولي وجيلر دوران (56) فقد درسا الفضاء الروائي لذاته ولم يقوما بتحليل الروابط التي تجمع بين الفضاء الروائي والأنساق الطوبولوجية الأخرى في العمل، والحال أن المكان لا يعيش بعيدا عن باقي العناصر السردية، بل ضمن أنساقها يحيا، وبه يمتد وينمو. والرواية الحديثة جعلت من المكان عنصرا حكائيا بالمعنى الدقيق للكلمة. وأصبح الفضاء الروائي مكونا أساسيا في الآلة الحكائية. ولم تخرج روايتا الكاتب عن ذلك المعنى إذ تعددت أماكن الروايتين وتنوعت، واتضحت ملامح الشخوص المرتادة لها من خلال نمو الأحداث، ومن خلال انتماءاتها الاجتماعية والسياسية والفكرية، وبالطريقة نفسها تتحول أفكار هذه الشخوص بناء على تكوينها الاجتماعي والسياسي والفكري وارتباطها بالمكان، بالمنهج نفسه تلاحمت به، وتشكلت رؤى وصورا حسية تفاعلت مع واقعها السالف الذكر. وتغذى الحدث بذلك، وازدادت الخيوط الروائية عمقا، وأواصرها شدا، وجميع الأمكنة فضاءات. فالقصر مكان انتقال خصوصي يجتمع فيه الأغنياء"وأصحاب الجمع والمنع"على حد قول الجاحظ، هؤلاء متمردون على الإنسانية لأنهم يبحثون عن الزعامة، بل يرون الزعامة حكرا عليهم دون سواهم.
إن الحيز المكاني الذي جرت فيه الأحداث، وبني فيه البيت (القصر) وبيوتات الطبقة الشعبية، أو حتى المتخيلة منها كلها تمثل بناءا متكاملا يشارك بعضه بعضا في تحقيق مكانية الحدث عن طريق الخطاب الروائي.
فالقصر، وبيت الخياط مثلا، جزءان من البيئة، وكلاهما مكان منغلق لأنه ينفرد بخصوصيته. ولأن فيه تتم الخلوة الخاصة بالبطل، فيطلق العنان لخلوته، لمخيلته كي تستريح بعيدا تستحضر الذكريات وتصنع التصورات، والصور ذات المشاهد الحالمة، ويأتي شرب الخمر في هذا الحيز(الكازينو) كعامل مساعد لبروز التداعيات والكشف عن نشاط من نوع خاص سما به أصحابه عن باقي الفئات الفقيرة، إنه الفاصل بين فئة غنية تمتص جهود المتعبين، وأخرى فقيرة منهكة مستخدمة ولا ترقى إلى مستوى هؤلاء لأن البطل وهو ابن عائلة راقية غنية، شارك رغم انغلاق المكان الطرف الآخر مأساته، ولملم بعضا من آلامها إلى داخل القصر، إلى هذا المكان الذي سماه القلعة، وهذا المكان"لا يخلو من النمذجة والتنميط، فهو مكان يتكرر في أغلب الروايات، وهو كذلك مكان محدد ومفعم بالدلالات"(57).
لقد بات المكان قلعة، موصوما بهذا النعت لما يحسه الداخل إليه من جمود وتواتر الألوان، وكثرة الأروقة، فهو أشبه بمتحف، بل بقلعة"فهو يحلم أن يتنفس قليلا من هذه القلعة"(58).
فلها سمتها دفعت به إلى معرفة نمطية الحياة بها، فأراد أن يتنفسها.. إن ذلك النظام المرتب الذي سار عليه البيت جعله فعلا أشبه بثكنة عسكرية، فأوقات الطعام واحدة وشرب الشاي واحد والخروج إلى الكازينو ليلا واحد، إنها دقة أصحاب القلعة في الحفاظ على مواعيدهم، وحين يجلسون إلى المائدة يكون النظام نفسه"في البيت كان والدي قد تصدر مائدة الغداء والتهم طبقه الأول". رئيس القلم"كان إلى جانب شقيقتي، ومن جنح الدجاجة انتزع عظمة رفيعة ذات فرعين فاقتسماها وتراهنا في لعبة التذكر"(59).. ويدور الحديث معبرا عن حالتهم كأفرادميزتهم بيئتهم عن غيرهم من الطرف الآخر"كان الحديث الدائر حول موسم الزيتون، وخبث الفلاحين، وسرقاتهم، قال والدي:"سأرى قائد الدرك اليوم في الكازينو، وأقول له إن رجاله ينامون، بينما كرومنا تنهب"(60).
ويتمادون في حديثهم معبرين عن نمط حياتهم المرتكزة إلى بيئة استغلالية، تعمل على إذلال أفراد الحي الآخر، إنهم مدعومون من قبل فرنسا أبا عن جد ليحافظوا على هذه الثروة، وليكونوا خداما وهم حاملون تسمية من التسميات الباهتة التي يتباهون بها على غيرهم من الناس. وليست القلعة إلا مكانا واحدا مغلقا لذا أصبحت الأفكار فيه ذات اتجاه واحد هو الاستغلال . وفي هذه الأمكنة عمل الكاتب على إعطائها نوعا من المرجعية التاريخية حتى يجعلنا نحسها، ونتمازج بها وإلا انعدمت هذه المرجعية ودفعتنا إلى الإحساس بأنها خرافية... "و الأمكنة التي ذكرها البطل كشاهد، أمكنة صنعها الواقع، وحفرت في الذاكرة "، كان جدك . اسمع .. انظر إليه .. كان قنصلا فخريا تعرف ما هو القنصل الفخري ؟ كان لا يمشي على الأرض، وعلى درج السراي يتقدمه قواص لينفتح له الطريق، الوالي بنفسه كان يقف له دائما، وجدتك لا تدخل فراشه إلا من أسفل السرير، كان يفك مشنوقا، وعلى بابه، على بابنا هذا، يقيل الناس، كالغنم في الظهيرة، بانتظار أن يخرج ويحظوا منه بلفتة، أو يصغي، وهو يسير إلى شكواهم .. ثم هذا أنا .. وهذه الأملاك . وسمعة هذا البيت، ومكانتي في المدينة .. أتقدر ما هي المكانة ؟ما أظن .. إلى النار "فولتير "و"روسو" و"مونتسكيو" أرسلتك للحصول على شهادة لا تقرأ هؤلاء الأوغاد.. أنت حفيد هذا الجد.. أسمع أنظر إليه.. إكراما لذكراه.. أقول لك إكراما لذكراه.. لا تعذب روحه، لا تلوثها، لا تجعلني أخجل بك أمامه يوم القيامة، لا تدعني أحني رأسي وأنا أمر أمام صورته"(61). لقد تمكن الكاتب أن يأخذ بأطراف البيئة، وأن يجعلها زادا استزادت منه روايته، إنه خبير بصنوفها، توغل في نفوس هؤلاء الذين لا يحلمون بغير المجد على جماجم الفقراء، واندس إلى أسرارهم فنقلها إلينا، وجعلنا نشاركه تبرمه فنمقت هذا التصرف المشين، بل جعلنا مرتاحين لذلك التمرد الذي جاء على يد الفتى البطل .

Pages