You are here

قراءة كتاب فقه الهجرة إلى الله في ظلال الحكم العطائية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
فقه الهجرة إلى الله في ظلال الحكم العطائية

فقه الهجرة إلى الله في ظلال الحكم العطائية

أما بعد، فحكم ابن عطاء الله السكندري يكسوها جلال من نوع خاص، أصله قلب عرف الله ذا الجلال، فصدرت عنه إشارات على طريق معرفة الحق الأعظم في الوجود، من أرقى ما صدر عمن سوى الانبياء، تحس جلالها بلا تكلف، حيث: (كل كلام يبرز وعليه كسوة القلب الذي منه برز)، وكسوة ق

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
دار النشر: دار المأمون
الصفحة رقم: 3

المقدمات

أولاً: من أنا؟: (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) (مريم: 67)
أول الطريق لمعرفة الله: معرفة نفسك، وهي أول مهمة لنا في فرصة العمر، أن نعرف: (من نحن؟)، فاعلم أنك قد خلقت خلقة عجباً، بروح أصلها من عالم الغيب والملكوت، وجسم كائن في الكون من عالم الملك والشهود، و(جعلك في العالم المتوسط بين ملكه وملكوته: ليعلمك جلالة قدرك بين مخلوقاته، وأنك جوهرة، تنطوي عليك أصداف مُكَوَّناته)، ولذلك فـ(إنما وسعك الكون من حيث جسمانيتك، ولم يسعك من حيث ثبوت روحانيتك)، فروحك تنتمي إلى ذلك الملكوت لا إلى هذا الجسد وهذا الكون، و(الكائن في الكون، ولم تفتح له ميادين الغيوب: مسجون بمحيطاته، ومحصور في هيكل ذاته)، والحرمان كل الحرمان أن تحرم عيان أصلك، وإن (ما تجده القلوب من الهموم والأحزان: فلأجل مامنعته من وجود العيان)، و(العارف لا يزول إضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره)، فيبدأ بالهجرة إلى ربه، بدلا من الدوران في فلك عادات كل يوم، حين يرحل من هم إلى هم، ويعود غداً إلى المكان الذي كان فيه أمس، فـ(لا ترحل من كون إلى كون، فتكون كحمار الرحى: يسير والمكان الذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكوِّن: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) (النجم: 42)، وانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ((فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله: فهجرته إلى الله ورسوله،ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها: فهجرته إلى ما هاجر إليه))، فافهم قوله عليه الصلاة والسلام، وتأمل هذا الأمر، إن كنت ذا فهم، والسلام)، واعتبر بنعمة أن الله قد سخر لك ما في السماوات وما في الأرض جميعاً: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) (الجاثية: 13)، فكن متبوعاً بها لا تابعاً لها، وإنما (أنت مع الأكوان مالم تشهد المُكَوِّن، فإذا شهدته: كانت الأكوان معك).
• موطن الضعف:

وإنما تحجبك عن الهجرة إلى الله وشهود ملكوته: عيوب النفس، وإن أول طريق هذه الهجرة الشوق إلى معرفة هذه العيوب الباطنة (5) ، فـ(تشوفك إلى ما بطن فيك من العيوب؛ خير من تشوفك إلى ما حجب عنك من الغيوب)، ويحجبك عن هذه المعرفة رضاك عن نفسك، و(أصل كل معصية وغفلة وشهوة: الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة ويقظة وعفة: عدم الرضا منك عنها، ولئن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه، خير لك من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه، فأي علم لعالم يرضى عن نفسه؟، وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه؟)، فـ(من رأيته مجيباً عن كل ما سُئل، ومعبراً عن كل ما شهد، وذاكراً كل ما علم: فاستدل بذلك على وجود جهله)، لوجود حجابه بالرضا عن نفسه، وهو أصل كل معاصيه.
ومع هذا الحجاب تسترخص النفس بذل العمر فيما ظهر لها من اللذات، إذ إن (حظ النفس في المعصية: ظاهر جلي، وحظها في الطاعة: باطن خفي، ومداواة ما يخفى صعب علاجه)، حتى يدمن القلب حلاوتها الظاهرة، وإن (تَمكُّن حلاوة الهوى من القلب هو الداء العضال) فـ(لا يُخاف عليك أن تلتبس الطرق عليك، وإنما يُخاف عليك من غلبة الهوى عليك)، و(من علامات اتباع الهوى: المسارعة إلى نوافل الخيرات، والتكاسل عن القيام بالواجبات)، فحاسب نفسك بما تراه منها من مسارعة في محاب الله، فما تقرب عبد إلى الله بشيء أحب إليه من أداء ما افترضه عليه (6) ، و(إذا التبس عليك أمران: فانظر أثقلهما على النفس، فإنه لا يثقل عليها إلا ما كان حقاً)، واعلم أن الشيطان لك عدو فاتخذه عدواً: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً) (فاطر: 6)، و(إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك: فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده)، وإنما خلقه ربك من أجلك، ولتفر منه إلى الله، و(جعله لك عدواً: ليحوشك به إليه، وحرك عليك النفس: ليدوم إقبالك عليه).
• سبيل القوة:

وهذا الهوى لا يخلي القلب منه إلا أدب مع الحق وأدب مع الخلق، فأما الأدب مع الحق فسبيله خشية الله، وحبه وحده والشوق لحبه، فـ(لا يخرج الشهوة من القلب إلا خوف مزعج، أو شوق مقلق)، إذ طالما كان هناك حب لسواه فلا إمكان لإقبال القلب عليه: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ) (البقرة: 165)، فهو (كما لايحب العمل المشترك، كذلك لايحب القلب المشترك، العمل المشترك: لا يَقبَلُه، والقلب المشترك: لا يُقبِل عليه)، وإنك (ما أحببت شيئاً إلا كنت له عبداً، وهو لا يحب أن تكون لغيره عبداً)، وهو حب أعلى من كل غرض، يستحق منك أن تبذل فيه خير ما فيك، فـ(ليس المحب الذي يرجو من محبوبه عوضاً، أويطلب منه غرضاً، فإن المحب من يبذل لك، ليس المحب من تبذل له)، وتأمل حب الله لك فيما وهبك من كل شيء دونما حاجة إليك في شيء، وتعلم كيف تحب!، فإنك (متى كنت إذا أُعطيت بسطك العطاء، وإذا مُنعت قبضك المنع، فاستدل بذلك على ثبوت طفوليتك، وعدم صدقك في عبوديتك).
وأما الأدب مع الخلق -مما يخلي القلب من الهوى-، فأوله أن (لا تصحب من لا يُنهضك حاله، ولا يدلك على الله مقاله)، إذ (ربما كنت مسيئاً، فأراك الاحسان منك صحبتك من هو أسوأ حالاً منك)، ثم النظر بصدق إلى ما تعرفه من حقيقة نقصك، والتخلي عن الرياء وحب الثناء من الخلق بما ليس فيك، لأن (الناس يمدحونك؛ لما يظنونه فيك، فكن أنت ذاماً لنفسك، لما تعلمه منها) (7) ، فإن (أجهل الناس من ترك يقين ما عنده، لظن ما عند الناس)، وأنت تعلم حق العلم من نفسك القصور عن ما يصفون، كما (ربما دخل الرياء عليك من حيث لا ينظر الخلق إليك)، إذ إن مجرد (استشرافك أن يعلم الخلق بخصوصيتك: دليل على عدم صدقك في عبوديتك) ، و(المؤمن إذا مُدح استحيا من الله أن يثنى عليه بوصف لا يشهده من نفسه)، فـ(إذا أُطلق الثناء عليك -ولست بأهل-: فأثن عليه بما هو أهله)، وارجع الأمر لمن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ* وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (الشعراء: 219)، لا نحصي ثناءاً عليه، هو كما أثنى على نفسه، ويكفيك نظره إليك وشهوده ما يكون منك، فـ(غَيِّب نظر الخلق إليك بنظر الله إليك، وغب عن إقبالهم عليك بشهود إقباله عليك).

Pages