أما بعد، فحكم ابن عطاء الله السكندري يكسوها جلال من نوع خاص، أصله قلب عرف الله ذا الجلال، فصدرت عنه إشارات على طريق معرفة الحق الأعظم في الوجود، من أرقى ما صدر عمن سوى الانبياء، تحس جلالها بلا تكلف، حيث: (كل كلام يبرز وعليه كسوة القلب الذي منه برز)، وكسوة ق
You are here
قراءة كتاب فقه الهجرة إلى الله في ظلال الحكم العطائية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
• قدر الدنيا:
إن الدنيا ليست محلاً للبقاء، وقدرك عند من سخر لك الأرض والسماء أكبر من أن يجعل فيها لك الجزاء، و(إنما جعل الدار الآخرة محلاً لجزاء عباده المؤمنين: لأن هذه الدار لا تسع ما يريد أن يعطيهم، ولأنه أَجَلَّ أقدارهم عن أن يجازيهم في دار لا بقاء لها) ، وإنما وطنك دار غير هذه الدار، و(لو أشرق لك نور اليقين: لرأيت الآخرة أقرب إليك من أن ترحل إليها، ولرأيت محاسن الدنيا قد ظهرت كسفة الفناء عليها)(10)، وإنما (الطي الحقيقي: أن تطوي مسافة الدنيا عنك، حتى ترى الآخرة أقرب إليك منك).
وإنما جعل الله ما في الدنيا دليلاً لك على صفات خالقه وطريقاً إلى معرفته، و(أمرك في هذه الدار بالنظر في مُكوَّناته، وسيكشف لك في تلك الدار عن كمال ذاته)، وإنما هو عمى البصيرة إذ تطلب ما تعلم فناءه وتعمى عن شهود الدائم بقاؤه (11)، و(العجب كل العجب ممن يهرب ممن لا انفكاك له عنه، ويطلب ما لا بقاء معه، (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج: 46)) ، وإنما عزك بمعرفة العزيز الذي في الدنيا أعزك، وفي الآخرة سيعزك، فـ(إن أردت أن يكون لك عز لا يفنى: فلا تستعزن بعز يفنى).
ثالثاً: أين هو؟: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (البقرة: 186)
• إسأل الله عن الله ليجيبك!:
وإذ قد تعرفت على خاصية نفسك، وصفة الدنيا التي أنت فيها، فاعلم أن كليكما من آثار فعل الله في الوجود ودليل على طريق معرفته سبحانه:
(تـأمل سطور الكائـنات فإنـها من الملك الأعلى إليـك رسائل
وقد خُطَّ فيها -لو تأملت خطها-: ألا كل شيء ما خلا الله باطل )(12)
ولكن وأنت تدرج في مراتب تعرُّفِك على الله من آثاره فصفاته وما سواها من المراتب، إعلم أنه ليس كالدعاء صلة تخترق الحجب وتصل المسافات، وتعرف بها أين الله منك، وتستيقن من أنه هو ربك الذي تدعوه فيسمعك، ولتعلم إن كان (هو) قريباً فتناجيه أم بعيداً فتناديه، وتؤسس لمخ عبوديتك وأصل علاقتك بربك بالدعاء -على طريق معرفته-، فتسأله (عنه) ليجيبك: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (البقرة: 186)، وعندها ستعرف أنه هناك!، وأنه الحي، وأنه قريب (13)، وأنه هاديك إليه حين تطلب منه أن يهديك، وهي خطوتك الأولى نحو عطائه الأعظم، وعلامته أنه (متى أطلق لسانك بالطلب: فاعلم أنه يريد أن يعطيك)، وهو عطاء مضمون، آتٍ بتحقق علامته من إطلاق لسانك بالدعاء، فـ(لا يكن تأخر أمد العطاء -مع الإلحاح في الدعاء- موجباً ليأسك، فهو ضمن لك الإجابة فيما يختاره لك، لا فيما تختار لنفسك، وفي الوقت الذي يريد، لا في الوقت الذي تريد)، واطمئن أن الله مجيبك بخير ما يصلح لك، خاصة وان قصة ما مضى من عمرك تشهد على حسن عنايته بك، فحَسِّن ظنك به لأجل ما عرفته منه، فما رزق العبد خيراً من حسن ظنه برب صفته أنه الوهَّاب الكريم، و(إن لم تحسن ظنك به لأجل حسن وصفه، فحسن ظنك به لأجل معاملته معك، فهل عوَّدك إلا حسناً؟، وهل أسدى إليك إلا منناً؟)، واعلم أن فضله سابق، قبل أي عمل كان أو يكون منك، وأن (عنايته فيك لا لشيء منك، وأين كنت حين واجهتك عنايته وقابلتك رعايته؟، إذ لم يكن في أزله إخلاص أعمال ولا وجود أحوال، بل لم يكن هناك إلا محض الإفضال، وعظيم النوال).
• من أدعو؟:
ما من واهب مثل ربك الكريم، فوحِّد قلبك وعلق أملك به وحده دون خلقه، و(لا تتعد نية همتك إلى غيره، فالكريم لا تتخطاه الآمال) (14) ، فاسأله أن لا يكلك إلى نفسك طرفة عين فـ(ما توقف مطلب أنت طالبه بربك، ولا تيسر مطلب أنت طالبه بنفسك)، وأين أنت من قدرته وحكمته؟، كما لا تُعلِّق أملك بمن دونه من خلقه و(لا ترفعنَّ إلى غيره حاجة هو موردها عليك، فكيف يرفع غيره ما كان هو له واضعاً!؟، ومن لا يستطيع أن يرفع حاجة عن نفسه؛ فكيف يستطيع أن يكون لها عن غيره رافعاً!؟) (15)، وإنما عطاء الخلق إليك إن حصل فهو مجرد أمر ظاهر، باطنه أن المعطي لك فيهم هو الله وحده، فـ(لا تمدن يدك إلى الأخذ من الخلائق، إلا أن ترى أن المعطي فيهم مولاك، فإذا كنت كذلك: فخذ ما وافقك العلم)، واستحي أن تطلب منهم وربك فوقهم، و(ربما استحيا العارف أن يرفع حاجته إلى مولاه لاكتفائه بمشيئته، فكيف لا يستحيي أن يرفعها إلى خليقته؟!)، ذلك أن (الذي يوجب لك رفع الهمة عما سوى الله: علمك بأنه لم يخرجك إلى مملكته إلا وقد كفاك ومنحك وأعطاك، ولم يبق لك حاجة عند غيره )(16)، فيكتفي العارف في بعض أحواله بسؤال ربه بلسان الحال بدلاً من لسان المقال، بما فهمه عن علم ربه به، (وإذا كان قد اقتضى لهم الفهم عن الله أن يكتفوا بعلمه عن مسألته، فكيف لا يوجب لهم الفهم عن الله الاكتفاء بعلمه عن سؤال خلقه؟)(17) .