You are here

قراءة كتاب أحوال بلاد المتوسط في عصر العولمة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أحوال بلاد المتوسط في عصر العولمة

أحوال بلاد المتوسط في عصر العولمة

مع انتهاء إعداد هذا الكتاب، طردت الثورات الشعبية (الشعب يريد) في تونس ثم في مصر من السلطة رئيسين كان كثيرون يعتقدون أنهما غير قابلين لإطاحتهما قط.

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 6

الفصل الأول

شيء من التاريخ

لإلقاء الضوء على آفاق العلاقات بين ضفاف المتوسط ورهاناتها، لابدّّ من وضعها ضمن سياقها الزمني، وأن نبقي في أذهاننا القطيعة التي مثلتها الثورة الصناعية والمشروع الاستعماري الذي رافقها.
لقد توافقت النهضة الأوروبية، المتزامنة مع أوج الإمبراطورية العثمانية والمبادلات بين الضفتين، مع منعطف أدى إليه اكتشاف أميركا وإعادة توجيه الطرق التجارية، كذلك أصبح انزياح التجارة والتمويل نحو بحر الشمال، الذي بدأ أواخر القرن السادس عشر، نهائياً مع الثورة الصناعية والاستعمار، اللذين آذنا بحركات الهجرة الحديثة. وقد تزايد الخلل بين الضفتين الشمالية والجنوبية، وبين أوروبا الصناعية والبلدان المتوسطية، فظهرت آثار قطيعات التاريخ الكبرى والاضطرابات الكبيرة في كل مكان، لكن على نحو غير متساو، ما فاقم التفاوتات. ولئن كانت حركات إنهاء الاستعمار قد أثارت آمالاً كبرى طوال عقد أو اثنين، فإنّ السياسات النيوليبرالية المطبقة بدءاً من الثمانينيات تكشف حدود تلك الآمال وتفاقم المسافات الاجتماعية ضمن مجتمعات الشمال والجنوب على سواء، بين المجموعات الاجتماعية وبين البلدان.
من العصور القديمة إلى النهضة:ضروب التجوال والتبادل والمواجهة

من العصور القديمة إلى النهضة، لم يكن البحر الأبيض المتوسط حاجزاً، بل فضاءً للتبادلات والتجوال، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، وكذلك فضاءً للاحتلال والاستعمار، تتالت فيه الحضارات، من فينيقية ويونانية، ثم توحدت نسبياً لمدة خمسة قرون مع الإمبراطورية اليونانية الرومانية، وانتشرت فيه اليهودية في منعطف العصر المسيحي في مصر وشمال أفريقيا وإسبانيا وأوروبا المتوسطية. منح قبائل الوندال (seladneV) اسمهم للأندلس قبل أن يؤسسوا مملكة في تونس في القرن الخامس ثم يعودوا لعبور البحر ليحتلوا سردينيا وكورسيكا ويغزوا روما. ومنذ القرن الثامن، احتل العرب كامل مملكة الويزيغوث (htogisiW) في إسبانيا تقريباً بعد الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، ثم احتلوا صقلّية التي عادت لتصبح بيزنطية في القرن التاسع.
أصبحت المسيحية الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية بعد اعتناق الإمبراطور قسطنطين لها في العام 312م وتنصرت تونس (أفريكا الرومانية) قبل بلاد الغال، كما أعقبت ولادةَ الإسلام في شبه الجزيرة العربية وتأسيس أول مدينة إسلامية في المدينة في العام 622م حركةُ توسع وفتح. لكن، لئن كان الفتح العسكري قد أدى إلى سيطرة سياسية وخضوع لسلطة إسلامية، فإنّ اعتناق الإسلام لم يُفرَض وكان أبطأ بكثير. وتمتعت الأقليات الدينية، ولاسيّما أهل الكتاب (المسيحيون واليهود، الذين عُدّوا مبشّرين بالإسلام، وكذلك في الشرق الزرادشتيون والهندوس) بوضع «ذمّيين»، عبر دفع ضريبة خاصة. وقد استقبل اليهود والمسيحيون الفاتحين بترحاب لأنهم كانوا كثيراً ما يتعرضون للاضطهاد في الإمبراطورية البيزنطية.
تعرّب المسيحيون واليهود، لكنهم قاوموا الأسلمة لوقت طويل، وبقي المسيحيون أغلبية في مصر وسوريا قروناً عديدة، في حين تبنوا اللغة العربية منذ وقت طويل. اختفت المسيحية من أفريقيا الشمالية في وقت أبكر، في حين صمدت اليهودية، وأخذت تنشأ حضارة جديدة، تستند إلى الحضارات التي سبقتها وتستوعب عناصر عديدة جداً منها، وطورت توليفة حضرية جديدة، تجارية وعلمية. شارك عدد كبير من اليهود والمسيحيين في الفورة الفكرية والفنية. وفي الطرف الآخر من العالم الإسلامي، أصبحت إمارة قرطبة في إسبانيا قلعة لتلك الحضارة التي يتجاور فيها ويتناقش الفلاسفة والفنانون المسلمون والأقلويون، من مسلمين ومسيحيين.
في تخوم العام1000م انقسم المتوسط بين ثلاث دوائر نفوذ غير متساوية، فكانت ضفتها الشمالية الغربية كاثوليكية رومانية، مثلها مثل الجزء الغربي من أوروبا، وكان القسم الشرقي أرثوذوكسياً وبيزنطياً، في حين كانت الضفة الجنوبية، التي تفيض شرقاً في الشاطئ السوري وغرباً في إسبانيا، إسلامية وعربية. وكانت إيطاليا، التي تقع في وسط حوض المتوسط، في ملتقى تلك الفضاءات الثلاثة. فصقلية إسلامية، وجنوب الجزمة[9]* بيزنطي، والشمال كاثوليكي روماني. لكن، في حين استقر الوضع في أوروبا بعد انتهاء الغزوات الكبيرة، تقلصت الإمبراطورية البيزنطية في مواجهة تقدم الأتراك، وتشظّت دار الإسلام. فالحروب الصليبية تعبير عن الاضطرابات التي أثارتها التحولات الكبيرة التي شهدتها المجتمعات الأوروبيةن واختلّ ميزان القوى في أواخر القرن الحادي عشر لمصلحة المسيحيّة الرومانية. وفي إسبانيا، استعاد الملوك المسيحيون المبادرة وجعلوا المسلمين يتراجعون تدريجاً.
يعد القرن الخامس عشر أوج عصر وبداية منعطف. فمن جانب، سقطت القسطنطينية في العام 1453م في يد الأتراك العثمانيين، الذين فرضوا أنفسهم في الأناضول ثم في مجمل الشرق الأوسط وبعد مدة وجيزة في أفريقيا الشمالية، باستثناء المغرب. ومن جانب آخر، عيّن سقوط مملكة غرناطة في العام 1492م نهاية إعادة الفتح (atsiuqnoceR) البطيء لإسبانيا، وطرد اليهود والمسلمين، واكتشاف أميركا.
جلبت التجارة في المتوسط بضائع الشرق إلى الغرب. ولمعت البندقية وجنوا واسطنبول – القسطنطينية بكل أنوارها. امتلأ طريق الحرير بقوافل البضائع القادمة من الشرق الأقصى؛ واخترع بحارة المتوسط لغة تمتزج فيها الإيطالية والإسبانية واليونانية والتركية والعربية. ولئن كانت المسيحية والإسلام يتواجهان سياسياً وعسكرياً، فإن المسلمين والمسيحيين امتزجوا في الموانئ والأصقاع البعيدة، وأخذ الأسرى يهتدون ثم يعودون إلى دين آبائهم، وفق ضروب التنافس على التحكم بالبحر.
احتل العثمانيون اليونان وبلغاريا وصربيا، لكنهم فشلوا أمام فيينّا. ووجد اليهود المطرودون من إسبانيا ملجأً في وهران وتونس واسطنبول وتسالونيكا. وتعيّن هزيمة العثمانيين في معركة ليبانت (etnapeL) البحرية في العام 1571م نهاية توسعهم في المتوسط.
في العام 1536، قام فرانسوا الأول وسليمان العظيم (سليمان القانوني) بالتوقيع على أول اتفاقيات «الامتيازات». التي بالاستناد إليها يستفيد رعايا ملك فرنسا بحماية سفيرهم وقناصلهم، وفي حال حدوث نزاع، لا يخضعون إلّا لقضائهم الوطني. ونال البريطانيون والهولنديون على المزايا عينها تقريباً. كانت تلك الاتفاقيات جيدة للإمبراطورية العثمانية في عصرها الذهبي الذي كان يشجع حرية التجارة، سواء بالنسبة إليها أم بالنسبة إلى الأجانب. تدريجاً، ومع صعود الرأسمالية التجارية في القرن الثامن عشر، أصبحت الامتيازات تستخدم لمصلحة التجار الأجانب، وبعد وقت قصير، أصبحت تطال أيضاً وسطاءهم المحليين، من يونانيين ويهود وأرمن وسوريين مسيحيين، وضعوا أنفسهم تحت حماية القناصل الأجانب، فوسّع هؤلاء بذلك عدد الممتنين لهم، وشهد تطور الرأسمالية التجارية الأوروبية في القرنين السابع عشر والثامن عشر تعميم الامتيازات على معظم بلدان أوروبا.
لقد أعادت الاكتشافات الكبيرة وتطور الملاحة البحرية توجيه الطرق التجارية، وأصبحت التجارة نحو الشرق تتم بحراً عبر الدوران حول جنوب أفريقيا، وتوقف البحر الأبيض المتوسط عن كونه مركز العالم.

Pages