You are here

قراءة كتاب هبة الله

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
هبة الله

هبة الله

تأتي هذه الرواية (هبة الله) بعد روايتي الأولى (الزيت المبارك) والتي أخذت طريقها نحو المطبعة، راجياً أن يستمتع بهما القارئ، ويجد فيهما كل خير وفائدة ومنفعة، وأن يتركا بصمات وآثاراً واضحة على طريق الرواية الأصيلة، التي تستمد وجودها من الحق الباقي الذي قام علي

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 3

( 2 )

اليوم النتائج , نتائج امتحانات الثانوية . وقاسم يحتسي شاي الصباح , وينقل بصره بين أبيه وأمه راجيا ً أن ينطق أحدهما بكلام يعيد إلى نفسه الأمل .
ينظر بعتاب إلى أبيه فهد بدشداشته الكالحة ووجهه المجعّد وصلعته الواسعة المحاطة بخصلات الشعر الأبيض المبعثرة .
يتأمل يديه الخشنتين اللتين اعتادتا على حمل قالب اللبن من فوق الآلة وإفراغه , ثم إعادة الكرة مرة أخرى , ليرجع آخر النهار إلى بيته المتواضع في حي البيادر مهدودا ً متعبا ً, فيستلقي على الحصيرة ساعة كاملة , ليتخلص من أكوام التعب والإرهاق , وليعيد فقرات ظهره إلى أمكنتها الأصلية بعد الانحناءات الكثيرة المتواصلة .
هو يعمل الآن كمساعد معلم على آلة اللبن , وهذه المهمة أسهل عليه كثيرا ً من المعلم الكامل . حيث كان في يوم من الأيام معلما ً ُينتج ما يزيد على مائتي لبنة يوميا ً , ثم صارت آلام الظهر والركب لا تسمح له بعمل ما يزيد على خمسين لبنة , فقرر صاحب العمل الاستغناء عنه , إلا أنه نتيجة الرجاء وتدخّل أبناء الحلال والتفكير بالعائلة التي يحمل همها تم تحويله لمساعد معلم بأجر يساوي ثلاث دنانير يوميا ً , وهذا المبلغ لا يساوي الكثير إلا أنه يسد الحاجات الضرورية المتزايدة .
اليوم نتائج الثانوية , وقاسم يحلم بمعدل مرتفع يؤهله لدخول كلية التمريض , ليتخرج ممرضا ً محترما ً بالمريول الأبيض , وليتجول بين الأسرة , ويتفقد المرضى , فيقيس الحرارة ويحقن الإبر ويأخذ الضغط ويوصي على وجبات الطعام ويغيّر على الجروح .
درس سبع ساعات يوميا ً منذ بدء العام . لم يترك سؤالاً جديداً أو سابقا ً إلا ودرسه وتدرب عليه , ثم أدى الامتحانات بثقة واقتدار وتوكل على الله , واليوم الحصاد وظهور النتائج وتحقق الأحلام .
الأب ينظر بشفقة وحسرة إلى ابنه الحالم بالجامعة وإكمال الدراسة , كم يتمنى لو كان غنيا ً ليساعده على تحقيق أحلامه وإدخاله إلى كلية التمريض , ولكن ما باليد حيلة ! فالجامعات للأغنياء وأبنائهم , وليست للفقراء والمساكين .
كم طلب من ابنه أن يدخل التعليم الصناعي , ليتعلم مهنة نافعة تفيده في مستقبله , وتسمح له بمساعدته في مصروف العائلة أو ليريحه نهائيا ً من عناء العمل !
ولكن ابنه العنيد لم يوافق على ذلك , بل استمر ينظر إلى الأغنياء وأبنائهم وأخذ ينافسهم في الدراسة والاجتهاد .
ليته يحصل على معدل صغير لا يؤهله لأي تخصص , بل ليته يرسب ويريحه من عذاب الضمير!
الوالدة ثريا أم قاسم بوجهها الأصفر ذي الغضون الكثيرة والأحزان المرسومة بإتقان على الجبهة وحول العينين , والثوب الطويل الفضفاض المخاط يدويا ً من غير مهارة , والنظرات المحتارة في الموقف المناسب , هل تفرح كثيرا ً لتفوّق ابنها الأكبر , أم تحزن لعدم القدرة على إدخاله الجامعة , أم تحب لو أتى بمعدل منخفض يساوي الرسوب , ليحفظ عائلتها من الخلاف والتفرق وذل السؤال .
صحيح أنها خبأت علبة ً من مسحوق العصير البرتقالي الرخيص , وكيسا ً من ملبس ( ناشد أخوان ) , لتحتفل بمناسبة النجاح , ولتفرح وتسعد بتفوق ابنها , ولكن الظروف أقوى منها ومن زوجها , ولن تسمح لهما بالفرحة والانبساط .
صفية بنت الصف السابع وصفاء بنت الصف الخامس ووسام ابن الصف الرابع ، ينظرون لأخيهم نظرة حب وإعجاب , ويتمنون له المعدل المرتفع والدخول إلى الجامعة ليكون ممرضا ً , بل طبيبا ً كبيرا ً يقوم بعلاجهم وعلاج أبيهم وأمهم من غير مقابل !
تتقلب حبات السبحة بين يدي فهد أبي قاسم , وهو يتأمل صغاره بعيون زائغة وذهن سارح , ينظر إلى ابنه الكبير قاسم بطوله الفارع وعينيه الملونتين وأنفه الصغير الناعم وشاربه المتناسق المرسوم بقلم خفيف , ووجهه الحسن بالشعرات الضعيفة التي بدت تظهر في مناطق متفرقة على لحيته , ثم يحدث نفسه قائلا ً :
" ما شاء الله ابن جميل متفوق ومتدين , تتمنى أمثاله عائلات كثيرة "
ثم يشعر بالفقر والعجز فيتحرك لسانه مكررا ًعبارة واحدة لا يزيد عليها :
" لا حول ولا قوة إلا بالله , لا حول ولا قوة إلا بالله " .
ينهض قاسم ليستعد للذهاب إلى المدرسة لمعرفة النتيجة , فيصلي ركعتي الضحى ثم صلاة الحاجة , ويطلب من الله أن يُنجحه بتفوق وأن يهيئ له دخول كلية التمريض وأن ييسر له مصاريف الدراسة , وأن يصلح له شأنه كله .
يرتب سجادة الصلاة , ويمضي خارجا َ من البيت , وهو يقول :
( بسم الله , توكلت على الله , ولا حول ولا قوة إلا بالله )
ثم يغادر حي البيادر وهو يردد برجاء :
( اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا ً , وأنت تجعل الحزن إذا ما شئت سهلا ً )
يقطع الشارع باتجاه المدرسة , وفي نفسه تتحرك أمواج من القلق والخوف , ثم تنساب نفحات من الأمل والسعادة الخفية .
يدخل في جموع الطلاب والآباء المتزاحمين على باب المدرسة , خلف المدير الذي يفتح الباب , وبيده حقيبة كبيرة تحوي القوائم التي تتضمن أسماء الناجحين والمخفقين , يدخل قاسم إلى الداخل وفي نفسه تتجاوب الآية :
( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ً , ويرزقه من حيث لا يحتسب ) .

Pages