يقوم هذا البحث بمناقشة مشكلات النحو ودعوات تجديده. وأهم محاور دعوات التجديد: إلغاء العامل، والتجديد في الإعراب؛ في الفصل الأول. ويجيب الفصل الأول عن تساؤلين مهمين: هل أزمة النحو العربي من النحو ذاته أو من طبيعة اللغة العربية؟
You are here
قراءة كتاب النحو العربي في ضوء اللسانيات الحديثة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الفصل الأول
مشكلات النحو ودعوات التجديد
مشكلات النحو العربي
محاولات تجديد النحو
أهم محاور دعوات التجديد:
إلغاء العامل
التجديد في الإعراب
مدخل
يوجز ابن خلدون في مقدمته وصف نظرية النحو العربي ونشأته، أنه حينما خشي العرب من دخول اللحن لغتهم «استنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة المطردة شبه الكليات والقواعد التي يقيسون عليها سائر أنواع الكلام. ويلحقون الأشباه بالأشباه؛ مثل أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب والمبتدأ مرفوع، ثم رأوا تغير الدلالة بتغير حركات هذه الكلمات؛ فاصطلحوا على تسميته إعراباً وتسمية الموجب لذلك التغير عاملاً، وأمثال ذلك. وصارت كلها اصطلاحات خاصة بها، فقيّدوها بالكتاب وجعلوها صناعة لهم مخصوصة واصطلحوا على تسميتها بعلم النحو»(2).
فالنحو العربي هو المستنبط من كلام العرب الذي تتبعه النحويون بالاستقراء ثم قاسوا عليه كلامهم. والإعراب تغير دلالة الكلمات تبعاً لتغير حركاتها، وموجب الإعراب هو العامل. ويعرّف الجرجاني النحو فيقول: «هو علم بقوانين يعرف بها أحوال التراكيب العربية من الإعراب والبناء وغيرهما»(3).
ويوضح الخليل أساس النحو العربي لديه حينما سئل عن العلل التي يعتل بها في النحو، فقيل له: عن العرب أخذتها أم اخترعتها من نفسك؟ فقال: «إن العرب نطقت على سجيتها وطباعها. وعرفت مواقع كلامها»، وهذا دليل ملاحظته إلى ظاهرة اللغة وانتظامها في نسق معين. والخليل بتفكيره العلمي حاول التوصل إلى معرفة أسباب هذه الظاهرة وعللها بما توصل إليه تفكيره؛ ويوضح أنه متيقن من أن هذا البناء اللغوي يعتمد على براهين وأدلة منطقية. يقول الخليل:«واعتللت أنا بما عندي أنه علة لما عللته منه. فإن أكن أصبت العلة فهو الذي التمست. فمثلي في ذلك مثل رجل حكيم دخل داراً محكمة البناء؛ عجيبة النظم والأقسام؛ وقد صحّت عنده حكمة بانيها، بالخبر الصادق أو بالبراهين الواضحة والحجج اللائحة، فكلما وقف هذا الرجل في الدار على شيء منها قال: «إنما فعل هذا هكذا لعلة كذا وكذا، ولسبب كذا وكذا. سنحت له وخطرت بباله محتملة لذلك، فجائز أن يكون الباني للدار فعل ذلك للعلة التي ذكرها هذا الذي دخل الدار، وجائز أن يكون فعله لغير تلك العلة، إلا أن ذلك مما ذكره هذا الرجل محتمل أن يكون علة لذلك. فإن سنح لغيري علة لما عللته من النحو هو أليق مما ذكرته بالمعلول فليأت بها»(4). ولكنّ هذا لا يعني أن ما توصل إليه الخليل على الإطلاق يقين ثابت ونهائي. «فالعلم لا يعترف بشيء اسمه الحقائق النهائية التي تسري على كل زمان ومكان، بل يعمل حساباً للتغير والتطور المستمرّين؛ أي أن اعتماد العلم على أدلة مقنعة للعقل بصورة قاطعة، لا يعني أن الحقائق تعلو على التغيير»(5)، وهو ما أشار إليه الخليل بقوله: «فإن سنح لغيري علة لما عللته من النحو هو أليق مما ذكرته بالمعلول فليأت بها». ويؤكد محمد عيد أن التعليل الوصفي في اللغة يحققه استخلاص نظرية استقرائية يُعتقد أنها تفسر الظاهرة اللغوية... وفوق ذلك فإن فهم التعليل الوصفي يتفق مع منهج البحث العلمي، والاستدلال بالعلل ينتج برهاناً صادقاً إذا اعتمد على مقدمات يقينية مؤدية للعلم، أما إذا اعتمدت على مقدمات ظنية فإنه يؤدي لما يسمى بالسفسطة(6). وهذا ما حدث للنحو العربي بعد أن داخلته الفلسفة وكثرت علله حتى ألفت كتب متخصصة في العلل، وأكثرَ النحويون من التفريعات والتأويلات، حتى استعصى على المعلمين قبل المتعلمين، ومقته العامة والخاصة، فتعالت الدعوات بتيسيره وتقريبه. وعدّ بعض اللغويين الدعوة لتجديد النحو اتهاماً ينقص من قدر النحويين القدماء، وأن هذه الدعوات ما هي إلا محاولة لتشويه اللغة العربية؛ ويجد عباس حسن أن ذلك من صروف الدهر التي تكالبت على النحو لإبراز عيوبه، ومالت عليه الأحداث؛ وأثقلت من حِمله ما كان خِفَّاً، وزاحمته العلوم العصرية فقهرته، وخلفتْه وراءها مبهوراً. ونظر الناس إليه فإذا هو فى الساقة من علوم الحياة، وإذا أوقاتهم لا تتسع للكثير بل للقليل مما حواه، وإذا شوائبه التى برزت بعد كمون، ووضحت بعد خفاء - تزهدهم فيه، وتزيدهم نفاراً منه، وإذا النفار والزهد يكران على العيوب؛ فيحيلان الضئيل منها ضخماً، والقليل كثيراً، والموهوم واقعاً. وإذا معاهد العلم الحديث تزوَرّ عنه، وتجهر بعجزها عن استيعابه، واستغنائها عن أكثره، وتقنع منه باليسير أو ما دون اليسير؛ فيستكين ويخنع(7).
بينما يرى خليل كلفت أن النحو الذي نشأ باعتباره مدافعاً عن اللغة والدين وحارساً لهما ضد اللحن وأخطاره كان من المنطقي أن يفرض ديكتاتوريته وديكتاتورية علمائه، هذه الديكتاتورية التي كانت بحاجة لكي تتواصل إلى أن تمنع الاجتهاد وأن تستعبد علماء النحو أنفسهم، كما يفعل كل منع للاجتهاد، وكل قمع لحرية البحث العلمي. فكانت النتيجة المنطقية لكل ذلك هي انفصال النحو عن الحياة، وعن لغة الحياة؛ ويؤدي انفصال النحو عن لغة الحياة وتعاليه عليها مع إقفال كل باب للاجتهاد إلى خلق وَهْم مؤداه أن النحو علم عُلوي لا يتصل بالجماعة اللغوية ولا يحتاج إلى العودة المتواصلة إليها(8). فنحن إذاً أمام مشكلة فكرية واجتماعية قبل أن تكون نقداً علمياً يسعى لتجديد النحو.
يستعرض هذا الفصل أهم المشكلات التي يشكو منها النحو العربي، ومن ثمَّ أهم محاولات تجديد النحو ومناقشة أهم محاور دعوات التجديد من رفض لنظرية العامل وتجديد في الإعراب.