يقوم هذا البحث بمناقشة مشكلات النحو ودعوات تجديده. وأهم محاور دعوات التجديد: إلغاء العامل، والتجديد في الإعراب؛ في الفصل الأول. ويجيب الفصل الأول عن تساؤلين مهمين: هل أزمة النحو العربي من النحو ذاته أو من طبيعة اللغة العربية؟
You are here
قراءة كتاب النحو العربي في ضوء اللسانيات الحديثة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
أهم محاور دعوات تجديد النحو
ـ إلغاء نظرية العامل
يعرّف الجرجاني العامل بقوله: «العامل ما أوجب كون آخر الكلمة على وجه مخصوص من الإعراب»(58)، وهو نوعان، لفظي ومعنوي: «وإنما قال النحويون عاملاً لفظياً وعاملاً معنوياً؛ ليروك أن بعض العمل يأتي مسبباً عن لفظ يصحبه؛ كمررت بزيد، وليت عمراً قائم. وبعضه يأتي عارياً من مصاحبة لفظ يتعلق به كرفع المبتدأ بالابتداء، ورفع الفعل لوقوعه موقع الاسم»(59).
ويقسم الجرجاني العامل اللفظي إلى سماعي: وهو ما صح أن يقال فيه: هذا يعمل كذا وهذا يعمل كذا وليس لك أن تتجاوزها، كقولنا إن الباء تجر ولم تجزم وغيرهما. أو قياسي: وهو ما صح أن يقال فيه كل ما كان كذا فإنه يعمل كذا، كقولنا غلام زيد لما رأيت أثر الأول في الثاني وعرفت علته قست عليه ضرب زيد وثوب بكر. والعامل المعنوي هو الذي يظهر أثره على بعض الكلمات في الجمل ولا وجود له في ظاهر القول. وهي موضع اختلاف كبير بين النحويين. وتقع العوامل المعنوية عند البصريين في شيئين؛ رافع المبتدأ، ورافع الفعل المضارع، وعند الأخفش رافع الصفة(60).
ويرى النحويون أن العامل اللفظي هو الأصل لأنه الأقوى، لأنه محسوس يدرك بالسمع، ولذا دخل جميع أبواب النحو فمنه: الأفعال، والحروف، والأسماء. لكنها ليست متساوية في العمل؛ فعلى حين أن الأفعال هي العوامل الأصول، فإن القسمين الآخرين فرعان لها، «بل يوجبون تعليل عمل الاسم والحرف، ويبني النحويون على أصالة عمل الفعل وجوب انحطاط الاسم والحرف عن الفعل إذا عملا تحقيقاً لفرعيتهما»(61).
ويرفض ابن مضاء نظرية العامل، ويدعو إلى تخليص النحو العربي منه. ويجد أنه مما يستغني النحوي عنه، ولكن النحويين أجمعوا على الخطأ فيه «من ذلك ادعاؤهم أن النصب والخفض والجزم لا يكون إلا بعامل لفظي، وأن الرفع منها يكون بعامل لفظي ومعنوي»(62). ومذهب أهل الحق في نظره أن ما ادّعى النحويون من أن حركات الإعراب من أثر العامل إنما هو من فعل الله، ولو نسبت للإنسان كسائر أفعاله الاختيارية كما قال ابن جني. ويسخر ابن مضاء من النحويين بعد أن يورد أراءهم في العامل فيقول: «وأما العوامل النحوية فلم يقل بعملها عاقل»(63). ويرى شوقي ضيف أن ابن مضاء، بتأثير من نزعته الظاهرية، ردّ بهذا الكتاب على نحاة المشرق(64).
ويوهم ابن مضاء القارئ بأن ابن جني يرفض نظرية العامل بذكره لقوله: «ومحصول الحديث، فالعمل من الرفع والنصب والجر والجزم إنما هو للمتكلم نفسه لا لشيء غيره»(65)، بينما واقع كُتُبِ ابن جني يعارض هذا الكلام بل وسياق الكلام الذي اقتبسه ابن مضاء يثبت عكس ذلك؛ ومن كلام ابن جني الذي يدل على تأييده لنظرية العامل النحوي؛ يقول: «وإنما نقول في رفع المبتدأ إنه إنما وجب ذلك له من حيث كان مسنداً إليه عارياً من العوامل اللفظية قبله فيه وليس كذلك الفاعل لأنه وإن كان مسنداً إليه فإن قبله عاملاً لفظياً قد عمل فيه»(66) وقوله: «إنّ الأسماء لا تنتصب إلا بناصب لفظي، فكذلك الأفعال لا تنتصب إلا بناصب لفظي، فأما من ادعى انتصاب شيء من الكلام بالمعنى دون اللفظ فقد وجب عليه من إقامة الدلالة على ذلك»(67).
ويصل ابن مضاء إلى أن النحو العربي لا يحتاج إلى ما سماه النحويون بالعامل؛ ولكن الفاعل مرفوع لأنه فاعل والمفعول منصوب لأنه مفعول، وكلها متعلقة بالفعل لأنها مثل المجرورات. فهو بذلك فقط يرفض ما اصطلح عليه النحاة بمسمى العامل، ولكنه لا يلغي عمله ويعد المعمول متعلقاً في قوله: «وأنا في هذا الباب لا أخالف النحويين إلّا في أن أقول: علّقت، ولا أقول: أعملت»(68).
ويذكر تمام حسان سبب رفضه للعامل: «إن المعروف في كل منهج علمي من مناهج البحث في الوقت الحاضر يعنى أولاً وآخراً بالإجابة عن «كيف؟» تتم هذه الظاهرة أو تلك، فإذا تعدى هذا النوع من الإجابة إلى محاولة الإجابة عن «لماذا؟» تتم هذه الظاهرة أو تلك، لم يعد هذا منهجاً علمياً، بل لا مفرّ من وصفه بالحدس والتخمين، وتفسير الإرادة والبحث عن الحكمة الإلهية في وجود هذه الظواهر». ويعلق عبد القادر الفاسي على ذلك بقوله: «إن تمام حسان لا يدلنا على مرجع في الموضوع نسترشد به، لأن هذا شيء «معروف» كما يقول. وطبعاً نحن لا نعرف هذا، بل نعرف عكسه، ونعرف أن النظرية العلمية يجب أن ترقى إلى مستوى تفسيري، ولا تكتفي بالملاحظة الخارجية في جميع الأحوال بل تبحث في الكيف وفيما وراء الكيف. فأين هذا العلم «المعروف» كما يعرفه تمام حسان؟» (69) ويؤكد ذلك أنه لا يكون النشاط العقلي للإنسان علماً بالمعنى الصحيح، إلا إذا استهدف فهم الظواهر وتعليلها، ولا تكون الظاهرة مفهومة إلا إذا توصلنا إلى معرفة أسبابها. ومعرفة أسباب الأشياء إرضاء للميل الفطري لدى الإنسان الذي يدفعه إلى البحث عن تعليل كل شيء. ومعرفة أسباب الظواهر هي التي تمكننا من أن نتحكم فيها على نحو أفضل(70). والعامل تفسير وتعليل للظاهرة اللغوية التي توصّل النحويون إليها باستقراء لغة العرب، وهي مقبولة صحيحة ما لم يقدم غيرهم تفسيراً آخر أفضل من التفسير بنظرية العامل، ولا يمكننا رفضها دون بديل لأن العلم مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالبحث عن أسباب الظواهر.
ويتبع ابن مضاء في رفضه لنظرية العامل شوقي ضيف، ولكنه لا يقدم تفسيراً بديلاً عن التفسير بنظرية العامل. أما إبراهيم مصطفى فيقرر أن الحركات الإعرابية ليست من أثر عامل بل هي علامات على معان؛ فالضمة علم الإسناد، والكسرة علم الإضافة، والفتحة لا تدل على شيء. ويتفق معه في ذلك مهدي مخزومي لكنه يرى أن الفتحة علامة لكون الكلمة ليست مسنداً إليه ولا مضافاً(71). ويعتبر تمام حسان أن العمل النحوي خرافة، ويجعل فكرة التعليق بديلاً لها فيقول: «وفي رأيي – كما في رأي عبد القاهر على أقوى احتمال-أن التعليق هو الفكرة المركزية في النحو العربي، وأن فهم التعليق على وجهه كاف وحده للقضاء على خرافة العمل النحوي».(72) ومصادر القرائن النحوية التي يقررها تمام حسان في كتاب «الخلاصة»، هي النظام الصوتي الذي يقدم للنحو حركات الإعراب، والصرفي الذي يقدم أصل الوضع والاشتقاق، والنحوي يتناول المفردات من حيث علاقتها بالمفردات الأخرى، ودلالة السياق التي تتمثل في علاقة المعاني ببعضها، والقرينة الحالية التي تكون من خارج الكلام لأنها دلالة الوضع السائد أثناء التكلم(73). ويمكننا توضيح ذلك بصورة مبسّطة في الرسم البياني التالي والمستوحى من كتاب الخلاصة النحوية لتمام حسّان: