قراءة كتاب الآخرون مازالوا يمرون

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الآخرون مازالوا يمرون

الآخرون مازالوا يمرون

المجموعة القصصية "الآخرون مازالوا يمرون"؛ الصادرة عن دار الفارابي، للكاتبة السعودية د. زكية نجم، نقرأ منها:
- غداً سيأتي العيد صامتاً.. ويخرس زئيرُ الحرب أنشودةً كنتُ أغنيها..

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 3

حلماً كانت أمي

مستطيلات الضوء السابحة في فضاء السقف المظلم تتوهج ثم يخبو وميضها.. التفتُّ نحو النافذة.. أطرافها ليست موصدة تماماً.. الهواء يعبث بها فتبدو الخطوط المضيئة أكثر استطالة وتوهجاً.
- آه يا معاذ.. مُنذ اكتشفتْ أصابعك الصغيرة أنها تستطيع بمساعدة الكرسي الوصول إلى مقبض النافذة وأنت تصرّ على أن تقف على أطراف قدميك كي تغلقها وحدك.
أتأمله.. ينام عميقاً.. رأسه منزلق عن الوسادة.. أطيل النظر إليه.. أتذكر ما حلّ به هذا المساء، تدبّ بداخلي رعشة قصيرة ثم تخمد، أنقلبُ على جانبي الأيسر، يصطدم بصري بجسد ريم، قفصها الصدري يعلو ويهبط في تسارع، جرحٌ أحمرُ غائر يتوسّد جبهتها البيضاء.. أمدّ ذراعي.. أسدلُ اللحاف على أطرافها العارية.
كثرتْ جروح ريم مُذ تعلمت المشي.. أحاول كثيراً إمساكها قبل أن تسقط.. لكنها نشيطة جداً ولا تتوقف عن الحركة.. معاذ يحبها كثيراً وهي أيضاً تصرخ بدلال حينما يتركها تربت رأسه وتشدّ شعره الأسود الكثيف.. تقاسيم وجهها تزداد شبهاً بملامح أمي يوماً تلو يوم.. يعاودني الشرود.
- منذ أصبحتِ بعيدةً يا أمي والحزن يصرّ على أن يعبُرني جزءاً جزءاً.. سمعتُ الكبار يحكون عن وجهكِ كم كان شديد البياض شديد الضياء، لكنهم لم يتركوا لي فرصة مشاهدته أو تلمّس وهجه.. ما زال صوتكِ المورق حناناً يتردد في أذني.. يحكي لي بعد أن ينام معاذ وريم عن ذلك المكان الجميل في السماء الذي لا يدخله إلا الأتقياء.. أسألكِ: هل سأراه؟
تقولين: «فتش عن الخير وستراه».. أعيد عليك السؤال: هل رأيتِه أنتِ؟ تجيبينني: «لا نراه إلا بعد أن نموت» وذهبتِ وحدكِ يا أمي؛ لم تأخذي معكِ أحداً منا حتى ريم الصغيرة.. ليتكِ قربي الآن لأسألكِ كم بُعد تلك المسافة التي تفصلنا عنكِ بعد أن كنا أجزاءكِ.. قطعاً منكِ.
أتنبّه وقد تعلق بصري طويلاً بوجه ريم.. كانت تصرخ بشدة عندما أحملها أو يحملها معاذ ريثما تعدّ أمي الطعام وكنتُ أزفر بعمق حالما أراها قادمة وهي تفتحُ ذراعيها لريم وسريعاً ينطفئ الصراخ وكأنه لم يكن.
كنتُ أحب اللعب.. الآن لم أعد أتوق إليه.. لم يعد يظهر لي في الحُلم بأجمل الألعاب.. أصبح وجه ريم يشغلني كثيراً.
أنقلبُ من جديد على الجهة الأخرى.. يأتيني وجه معاذ هادئاً.. كم أخافه حينما يزحف نحوي وتتشابك أصابعه القصيرة المكتنزة خلف عنقي وينخرط في البكاء.. إنه يكره أمي الجديدة.. هي ليست أمّنا لكن أبي يأمرنا أن نناديها كذلك.
معاذ يكرهها بشدة.. وريم أيضاً تصرخ حالما تحاول الاقتراب منها.. أنا لا أكرهها.. أمي البعيدة قالت لي لا تكره أحداً أبداًيا طارق، لكنني لا أحبها، هي أيضاً أشعر أنها لا تحبنا، أو ربما تكرهنا.
وجهي يلتصق بذراعيّ المُمدّدتين على الفراش.. أحاول طويلاً ألّا أتذكر ما حدث في ذلك المساء لمعاذ.. كان السائل يخرج من عينيه بغزارة.. قلبي يطرق ويطرق كأنه يريد الفرار.. لم أكن أعرف كيف يمكن للقلب أن يفرّ من موقف نحيب!
أمي الجديدة ضربته بشدة.. تلك العصا القاسية تنهش ذراعيه وظهره.. معاذ يصرخ.. جسده يتلوى.. أقترب منها.. أصبح بينه وبينها.. العصا تهوي على ذراعي.. جلدي يتلوّن.. خطوطٌ حمراء طويلة ناتئة تتخلّلها زرقة دكناء.. بكاء معاذ يتحول إلى نشيج مُختنق.. قامة ريم ترتفع وتسقط وهي تصرخ.. أحملها إلى الحجرة الخلفية.. السائل يهطل من عينيها بغزارة.. قلبي يخفق بشدة بينما تنخرط هي في نوبة عنيفة من الصراخ.. أفتش بين أصابعها.. ذراعيها.. ساقيها.. ليس في جسدها خطوط حمراء.. مازلت أستطيع سماع أنين معاذ وهو يتداخل بصراخها.. الخوف يعصف بي.. لم أعد أحتمل.. أخبّئ رأسي بصدر ريم.. تكركر ببهجة.. تربت رأسي.. تظنني ألاعبها.. عيناي تسكبان سائلاً مالحاً وحارقاً.. ثوبها الأبيض الجميل يتبلّل.. يصبح لأنفاسي صوتٌ مرتعش:
- يارب أنا أعلم أنك قوي وتستطيع أن تدفع الألم بعيداً عن جسد معاذ.. ساعدنا يا الله.. أنا ومعاذ صغيران.. لا نستطيع أن نقول للكبار: «لا» وريم لا تعرف حتى كيف تنطقها.
أهدأ.. تسكن العاصفة في قلبي قليلاً.. ريم ينتابها النعاس.. أحملها.. تنام على كتفي.. جسدها يصبح أثقل.
في حجرتنا المتوارية أصبحُ وحيداً.. أقرأ سطراً لكنني لا أفهمه.. أو ربما استعصى على ذهني فهمه.. ألصقُ كفّي بصدري.. ما زال يطرق بسرعة.. عيناي معلقتان بالباب.. أمي الجديدة تأتي وتقتلني.. الشيء الذي ينبض في عنقي يموت.. أنا أموت.. معاذ يموت قبلي.. لا أحد يحمل ريم عندما تصرخ.. يداي ترتعشان.. قدماي.
- لا.. أمي الجديدة لا تقتل.. قلبي فقط جبان.
مقبض الباب يهبط.. معاذ يأتي حاني الرأس ونظرة جريئة تتقافز داخل عينيه..
- كم أحبك يا معاذ!
أفيق من شرودي.. أزفر بعمق.. ألقي نظرة أخيرة على جسده النائم أتتبّع قسمات وجهه.. هادئ.. بريء.. أغمض عينيّ.. يدبّ في أطرافي خدرٌ لذيذٌ.. تتراءى لي خطوط ناتئة يتقاطر منها الدم ورهبة تلجمني.. وجه أمي البعيدة يتضح.. يقترب أكثر.. يتجاوز الخطوط.. يبتسم لي طويلاً في حنان.

Pages