قراءة كتاب الآخرون مازالوا يمرون

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الآخرون مازالوا يمرون

الآخرون مازالوا يمرون

المجموعة القصصية "الآخرون مازالوا يمرون"؛ الصادرة عن دار الفارابي، للكاتبة السعودية د. زكية نجم، نقرأ منها:
- غداً سيأتي العيد صامتاً.. ويخرس زئيرُ الحرب أنشودةً كنتُ أغنيها..

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 5

المطر

بركةٌ ضحلة خلّفها المطر.. تتمدّدُ في سكون فوق الأرض الرطبة قرب قدميه الحافيتين.. طبقاتٌ صغيرة من وحلٍ جاف تلتصق بالفراغات الضيقة الفاصلة بين أصابع قدميه.. مرَّ وقت طويل وهو ما يزال ممدَّد الجسد، مستند الرأس إلى حجرٍ طيني أملس، أمطرت بغزارة.. كانت تلك المرة الأولى التي تجرّأ خلالها أن يدلف حتى منتصف الحي ويصرخ.. أخذ يلهث راكضاً بين الأزقة الضيقة بينما تتناثر نظراته فوق الأبواب، النوافذ وأسطح المنازل علَّ أحدهم يراه فيسمح له بالدخول حتى انتهاء المطر. مخالب القطة التي ألفها تصدر جَلَبةً وهي تعبث بحجر الطين الرابض تحت رأسه.. تقلق سكونه.. ينتفش وبرها في تحفُّز.. تقفز بأطرافها الأربعة وتستقر فوق كتفيه.. يدفعها بذراعه بعيداً.. تسقط في بركة المطر. المطر..
لم يهزمه أحدّ مثلما هزمه المطر تلك الليلة: العاصفة تزمجر، قطرات الماء ترشق جسده ووجهه بقسوة.. فرائصه ترتعد وهو يركض قابضاً على قطته بكلتا يديه بينما كانت تصدر مواءً خافتاً أشبه بالفحيح. وقعت عيناه على طفل ٍ يحبو مجتازاً أحد الأبواب ومحاولاً هبوط درجات المنزل الخارجية المغمورة بالماء. قذف القطة نحو الأرض.. هرع باتجاه الصغير وحمله.. كان جسده مثله مبللاً لكن في عينيه فرحة تتقافز وفي فمه أحرف مرحٍ ساذجة لم يفهم ماذا تعني. صعد به نحو الباب وحينما حاول الطرق فُتح الباب بشدة.. برزت ذراعان ضخمتان.. انتزعتا الصغير ودفعتا الصبي إلى الوراء. حمل قطته.. سمع وهو يعدو صراخ الصغير بينما كان صوتٌ ساخطٌ يرجُمُ مسمعه «مشرد.. بلا أهل.. بلا بيت». القطة تداعب حشرةً مختبئة داخل تجاويف الجدار.. ينقلب على جنبه الآخر.. مرَّ زمن طويل وهو كما يقولون «مشرّد» هكذا وجد نفسه فجأة بعد موت أبيه.. وجهٌ مهملٌ تحت ظل جدار.. تذكر المرة الأولى التي حمله فيها والده إلى هذه القرية.. لم يكن يعرف من أين جاء به..
ما قصته.. وعمّ كان يبحث.. كل ما يعرفه أنهما كانا وحيدين. القطة تتسلَّقُ ظهره.. تلتصق مخالبها بردائه.. تموءُ بحدة.. يدفعها بعيداً.. يسمع صوت سقوطها مرة أخرى في بركة الماء.
المطر.. أصبح يخافه كثيراً.. ظلَّ يعدو بشدة وسط تلك العاصفة وفجأة لمح عينين تتلصصان خلف نافذة مواربة.. توقف عن الركض..
انعطف باتجاه النافذة.. ظلَّ رأسه الصغير مرفوعاً ونظرته مشرئبة نحو ذلك الخفي المتواري خلف الأسوار. «المطر شديد.. أبحثُ عن مكان جاف.. أرجوك»: يواصل التحديق.. الخفي يرمقه بنظرة متوجسة.. تذكر لحظتها صبية الحي حينما كانوا يقذفونه بالحجارة وهو نائم تحت ظل الجدار المنتصب بعيداً عن بيوت الحي.. كثيراً ما فكّر في أمر ذلك الجدار.. لماذا توقف بناؤه؟ من الذي بناه؟ أهو والده؟ ولماذا هو قائم وحده بعيداً عن حدود القرية؟ هل لو أصبح بيتاً لتقاربت المسافة بينه وبين بقية البيوت؟ تيارٌ قوي يهب فجأة.. يهز قامته الناحلة.. يُرجعه إلى الوراء بضع خطوات.. بصره مازال معلقاً بمن وراء النافذة .. «المطر.. شـ شـ شـ.. ديد.. أأرجوك..».
تنطفئ العينان فجأة.. يحكم الخفي إغلاق المزلاج.. شبحه يبتعد إلى الداخل. تصبح النافذة موصدة.. لا تختلف عن بقية النوافذ والأبواب. يعود الصبي حاني الرأس من حيث أتى.. يرمي جسده بمحاذاة الجدار.. لا يشعر بشيء. مواء القطة لا يزال يقلق سكونه.. تدور حوله.. أحد مخالبها يحدث جرحاً صغيراً في ذراعه..
يفتح عينيه بحدة.. ينزلق رأسه عن حجر الطين.. ينهض واقفاً يسير خطوتين.. تتبعه القطة.. يقف عند حافة البركة.. قدمه ترتفع عالياً ثم تهبط بشدة داخلها.. عمود من الماء يعلو ثم يتناثر رذاذه فوق جسدها.. تصدر مواءً عالياً وهي تنفض الماء عن وبرها الملتصق بجسدها الهزيل.. يكركر الصبي.. تقفز نحوه.. يتطاير الرذاذ خلفها كركرته تطول.. يصمت فجأة.. سحابةٌ سوداء تقترب في ثقل.. تنشر عتمة مريعة في الأفق. لم يمر وقت طويل حتى أخذت السماء تهطل مرة أخرى بغزارة.. أُغلِقتْ النوافذُ والأبوابُ.. سكنت الشوارع.. اشتدَّ الفضاء حلكةً.. لم يعد يُسمَع سوى خطوٍ يمعنُ في الركض.. مواء قطة.. ورذاذُ مطر.

Pages