قراءة كتاب الآخرون مازالوا يمرون

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الآخرون مازالوا يمرون

الآخرون مازالوا يمرون

المجموعة القصصية "الآخرون مازالوا يمرون"؛ الصادرة عن دار الفارابي، للكاتبة السعودية د. زكية نجم، نقرأ منها:
- غداً سيأتي العيد صامتاً.. ويخرس زئيرُ الحرب أنشودةً كنتُ أغنيها..

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 4

طائرة من ورق

ألقيتُ نظراتٍ ذابلة فوق الأرصفة.. على مقاعد المتنزهات.. زجاج السيارات.. فتشتُ بين كتل الجليد عن شيءٍ مجهول يومض في مخيلتي ثم يعود فيخبو.. انتظاري على الرصيف يطول.. أشعر ببردٍ قارسٍ يخترق مسامات جلدي.. تتسلل سياطه لتلسع عظامي بقسوة.
انطلقتُ مُسرعةً حالما حان دور المشاة.. اتجهتُ نحو الممر ذاته.. تأملتُ الوجوه الكادحة المتكوِّمة على أطرافه.. شعرتُ بخطواتي العربية كطائرٍ غريبٍ داخل سربٍ ينتمي إلى فصيلةٍ واحدة.. طوّحت بفكرتي داخل زحامهم وهربتُ بعيداً.
أطلقتُ زفرةَ تعبٍ وأنا أدفع باب المبنى الذي أقطن فيه.. اصطدم بصري باللافتة المعتادة «عذراً المصعد معطل».. لا يمرُّ أسبوع إلا ونُجبر على قبول عذرٍ ثقيل كهذا.. صعدتُ السلم الحلزوني حتى الدور الخامس.. شعرتُ بآلام حادة تنهش مفاصلي.. اتجهتُ نحو باب شقتي القابع في ركنه المتواري.. أدرتُ المفتاح بوهن.. رميتُ حقيبتي دون أن ألتفت لأرى أين سقطتْ.. تنبهتُ وأنا أبعد الستائر عن النافذة إلى سقوط المفتاح من فوهة الحقيبة على الأرض.. هواء باردٌ منعش ينبعثُ من النافذة.. يمسح عن جبيني رهق الصعود.. أتأملُ فرع شجرتي الضخم.. أمسح عن أطرافه كومة الجليد.. كل مساءٍ أمدّ أناملي برفق لأتلمّس أوراقه.. إنه قريب جداً من نافذتي رغم أن أصل الشجرة يبعد كثيراً عنها.. أعود إلى ترجمة أوراقي المكدّسة فوق مكتبي.. أتنفسُ بعمق وأنا أنهي فصلاً وأضعه في مرجع خاص.. أبتدرُ الفصل الجديد بعينين غائمتين.. تتجمّد نظراتي على صفحته الأولى.. تتكسّر الكلمات.. هطلٌ يشي بحزنٍ قادم يلوح من جديد.. صورٌ قديمة تحاصرني.. الحياة لم تكن تعيسة، لكنها أقل من أن تكون سعيدة.. تعايشتُ معها بقضاء أسبوعٍ في بيت والدتي و آخر لدى والدي.. استمرت الأيام بعد انفصالهما مُملة وقاتلة.. كل يوم يمر كنت أشعر أنني أرتبط بمن حولي بخيوطٍ رفيعة تشبه خيوط طائرات الورق التي كنتُ أتفنن في صنعها بنفسي.. ابتسمتُ حينما تذكرتُ أنني كنتُ أمتلكُ روحاً مرحة.. منذ طفولتي وأنا أعشق الطائرات الورقية وأشعر بسعادة غامرة حين ألهو بها، رغم أن سوء الحظ لا يكاد يفارقني فلم أخرج قطّ بطائرةٍ ورقيةٍ جديدة إلا وعدتُ صفر اليدين.. يسرقها الهواء ويحتفي بضياعها اتساع السماء.
انكسرتُ وجعاً عندما قرر والدي أن يصطحبني في رحلة عمله الطويلة إلى فانكوفر.. مدينةٌ تضجُّ صمتاً.. باردة حتى التعب.. ومن يقطن فيها من غير أبنائها لا تتنفسه.
أعاود الانصياع لأوراقي.. أنجزُ فصلاً آخر وأضعه في مرجعه.. يقتنصني الشرود من جديد.. في بيت والدتي السابق.. حجرتي تحديداً كانت كل زاوية و منحنى يعبّر عن فوضى منظمة لا تخص أحداً في البيت سواي.. ستائر ضبابية اللون.. مصباحُ قراءةٍ يناضل ليل نهار لإرضاء عينين لا يشبع في حدقتيهما نهمُ القراءة.. ركامُ الكتب يشغل حيزاً كبيراً من المكتب.. لوحاتٌ بيضاء.. أنابيبٌ زيتية وقامات فُرَش تتفاوت في الطول.. مقصٌّ وأوراقٌ وخيوطٌ تفترش الأرض كالعادة عندما تنتابني الرغبة في صنع طائرات الورق.
دهمني حنينٌ بارد.. حملتُ كل الأوراق ودفعتها إلى أحد الأدراج.. عدتُ أطيل الوقوف خلف النافذة.. أنصتُ إلى غناء أحد المارة وهو ينساب خافتاً عبر الشارع المطلّ على المتنزه.. تترجمتْ معاني نشيده في ذهني العربي المشحون بالعاطفة والحزن.. «العالم سيئ جداً والناس لا حياة لك معهم.. لا تصدق هذا الوقت.. ستجد لك طريقاً في زحامهم مهما بحثت طويلاً..»
هطلت عيناي دمعاً.. تذكرت حالي سابقاً وما أنا عليه الآن.. طعمُ الغربة يتدفق مُراً في حلقي.. أسرعتُ أقلب صفحات مفكرتي.. يكتبني القلم أو أكتبه.. لحظةٌ متشابهة حتى التماهي رغم اختلاف طرفيها.
«أريد أن ألملم شتاتي.. أريد رؤية أمي وإخوتي.. أريدُ بيتاً يزهرُ حباً.. ومدينة لا تُنكرُ وجهي.. أريد سماءً تضحك لطائرتي وشمساً تتغنّى بعشق العربية.»
توقفتُ حتى انقشع ضباب الدمع.. ثم عاودتُ الكتابة:
«ذات ليلٍ حلمتُ بفضاءٍ واسع وفي الصباح رأيته حقيقة.. رأيته داخل خباياي.. كم كان شاسعاً.. غامضاً وقاتماً.
سألتني ذات مرة جارتي جوناريت التي تقطن بالجهة المقابلة.. «هل كل العرب يصرّون مثلي على حمل أقنعة حزينة؟!»
ومضتْ ابتسامةٌ صغيرة على شفتيّ..
«أحمل هذا القناع حتى لا أحتاج إلى تغييره عند حدوث أنباء مزعجة!»
لا أعرف ما الذي جعلني أفتش في جيوب الماضي وتتداعى أمامي كل هذه المواقف دفعةً واحدة، ربما لأنني أريد أن أنظر إلى المستقبل بوضوح.. أشعر بقرارٍ جديد يبرق في ذهني، لكنني هذه المرة لن أقبل سقوطه.. سأنفذه بالتأكيد.»
لمعتْ بعينيّ ومضة فرح مُفاجئة.. قفزتُ إلى خزانتي التي أنفي بها أشيائي القديمة.. خدشتْ حافة الباب ذراعي.. لم أبالِ.. بعثرتُ كل ما وقع تحت يديّ.. وأخيراً وجدتها!
أمسكتُ طائرتي الورقية القديمة.. شعرتُ بأن ثمّة إحساساً عميقاً بالانتماء يربطني بخيوطها.. فتحتُ زجاج النافذة.. هزّني تيار الصقيع.. بقيتْ أطرافي ثابتة.. شددتُ الطائرة بإحدى يديّ وحللتُ الخيوط بالأخرى.. التيار يشتد.. أفلتُّ الطائرة وتركتُها تواجه مصيرها أمام ريحٍ لا تتكافأ وضآلتها.. الخيوط تهزّ أناملي بعنف.. تتشابك.. ينتزعها تيّار الهواء قسراً.. تضيع.. أراقب ما يحدث في ذهول.. تتطاير بحدة.. ترتجف في كل الاتجاهات.. ثم تعلن سقوطاً هادئاً كحمامةٍ بيضاء جريحة.
أغمضتُ عينيّ.. تنهّدتُ عميقاً.. تذكرتُ كم هي كثيرة تلك المرات التي شاهدت فيها هذا المنظر.. أغلقتُ زجاج النافذة.. رأيت وجهي منعكساً فوقه وابتسامة هادئة تحُط على شفتيّ.. أسرعت نحو مفكرتي.. قرأت السطر الأخير.. «أشعر بقرار جديد يبرق في ذهني لكنني هذه المرة لن أقبل سقوطه.. سأنفذه بالتأكيد..» أضفتُ جملة صغيرة:
«و.. سأعود إلى وطني»
ودَّعتُ فرعي الضخم طويلاً.. حزمتُ كل أمتعتي وغادرتُ المكان.

Pages