قراءة كتاب فلتة زمانه

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
فلتة زمانه

فلتة زمانه

كتاب " فلتة زمانه " ، تأليف فيصل فرحات ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 2

أما أنا فقد زال همي، بعد أن رأيت أمي وأخبرتها ما حصل معي. مشيت فسألتني إلى أين ذاهب؟ وكان جوابي عن بُعد خطوتين: «باقي هون بالحيّ». طوال فترة الظهر، حين يعود التلاميذ من المدرسة إلى بيوتهم، كنت «مَضحكة» لرفقائي السابقين في المدرسة، وفي الحيّ. ومنهم جورج وميلاد ونبيل، وأنا أصف لهم كيف وقعت «تنكة» الماء الساخنة على رجليَّ، وهم يضحكون! ما عدا ميلاد الذي ضحك قليلاً، وبدا على وجهه بعض من ملامح الحزن. أما جورج فكان يطلب مني إعادة «الخبريّة». وحين رفضت في المرة الثالثة، أو الرابعة، ضحك وهو يردد كلمة: «تزحلقت» رجلي بالصابون، فضربت «بابور» الكاز برجلي الثانية، وأنا قاعد على «الطبلية»!

وبطبيعة الحال، كنت أنا أيضاً أضحك معهم في أواخر الضحكة. وذلك حتى «بيّن» (أظهر) حالي «مش فارقة معي». وحين أصبحت الساعة الواحدة والنصف، بدأ التلاميذ الصغار في العودة إلى المدرسة بعد الغداء، فيما التلاميذ الكبار يتهيأون للذهاب إليها، بعد الانتهاء من قول آخر «نكتة». أما الرجال والكبار في السن، ومنهم المعلم طوني ووالده (المرحوم) العم أبو طوني، فكانوا يسألونني وأنا أجيب. فزعلوا على زعلي وتوجعوا معي قليلاً وظهر ذلك بحركة شد ملامح الوجه، وبخاصة حين وصفت كيف وقعت «التنكة».. فيما بعض النساء دعَوْنَ لي بالشفاء، طالبات مني الراحة، ورافضات أنْ أمشي قبل أن تتحسن حالة رجليَّ. أما جورجيت فنظرت إليّ بحزن وفي عينيها شيء من الشفقة، وقالت: «لازم تنام وما تمشي حتى تصح».

فهززت برأسي موافقاً، وعلى وجهي ابتسامة حُزن. وحين مشت إلى المدرسة، عدت إلى نفسي بخجل.

كانت لحظات مُضحكة ومشجعة على السواء. وكانت مثل الدواء. إذ نسيت الوجع لأكثر من ساعتين. وهكذا بدأت أشعر وكأن الأمر عادي والأسبوع المقبل سأكون «صاحح» من هالحرق.

فجأة خطر في بالي أن يرى أبي ما أصابني. فمشيت متكئاً على العصا إلى البيت، وفي نفسي شعور بالتحدي، بعد أن خف إحساسي بالألم؛ كي أعرف ماذا سيقول أبي؟ وهل سيضربني؟ وبالطبع عدت وكررت أمام بعض المارة من الجيران وأنا «أعرج» في الشارع ما حصل معي!

وحين وصلت إلى بيتنا، كان بعض النسوة والأولاد وأمي وأخوتي الصغار في انتظاري! بعضهم طلب كشف «الرباط» عن الحروق، وبعضهم رفض وبخاصة أمي. مكررين معاتبتي ووضع الملامة عليَّ لأني أبقيت «تنكة» الماء الساخنة على «بابور» الكاز، وعدم وضعها على أرض الحمّام، كما قالت أم جان مما زاد من غضبي وجعل الوجع يسري في رجليَّ! فمددت العصا بينهم كي أمرّ وأنزل الدرج إلى البيت. فتعالت بعض الأصوات بكلمات تحذرني من النزول إلى البيت، لأن أبي منع عني هذه الزيارة، وهو إن أتى ورآني فسيضربني! حينها منعتني أمي من نزول الدرج، طالبة مني الصعود إلى الدرج الثاني المؤدي إلى السطح. وأن أتمدد على «صحاحير» أبي علي، وهي سوف «تلف» لي رغيف «مجدرة» حمراء، وبعد قليل أعود إلى بيت أم جان.

نظرت نحوها، ورأيت أن ما قالته صحيح، كي لا أتسبب لي ولها بمشكلة مع أبي، وهكذا فعلت. صعدت الدرج الثاني المؤدي إلى السطح، وخطوت نحو «الصحاحير» التي كانت موضوعة ومصفوفة على الجانب الأيمن. فيما النساء وأمي والأولاد تبعوني. وكان بعض الأولاد قد قفزوا أمامي. وما إن تمددت على «صحاحير» البندورة الجبلية المتينة، حتى طلبت أمي من الجميع تركي «بحالي». وبدأت تصرخ في أخوتي قبل الأولاد الآخرين، كي ينزلوا إلى البيت، ثم رجت أمهاتهم أن يتبعنها، فمشين خلفها. بعد لحظات، كنت أنظر إلى السماء وإلى اللاشيء، وأنا وحدي، وقليل من الدمع قد انساب فمسحته بسرعة بيدي قبل أن تعود أمي. وما أن أغمضت عينيّ للحظات كي ترتاح ويرتاح رأسي، حتى سمعت «دعسات» أمي وهي تخطو نحوي. فتحت عينيّ ورفعت رأسي قليلاً، لأراها تحمل بيدها رغيف «مرقوق» ليس كبقيّة الأرغفة التي حملتها لي من قبل! تقدمت مني وأعطتني إياه قائلة بما معناه: «لفّيتلك رغيف مجدرة، بعدو سخن، مع بصل وبندورة. جلِّس وكول». فجلست وأسندت ظهري إلى الحائط، وأنا أتناول منها ذاك الرغيف الكبير. ثم جلست على «صحارة»، ورددت بضع كلمات لم أسمع منها سوى القليل، الذي لا يُذكر (ولا أتذكره)، وذلك لأن لهفتي إلى قضم رأس ذاك الرغيف، سيطرت على انتباهي، فقضمت فوراً قضمة كبيرة، جزء منها لسع لساني من سخونة «المجدرة»، والجزء الآخر برّدته شقف البندورة والبصل، فحاولت مزجهما معاً، ثم بلعت بعد أن مضخت أقل من المعتاد. وفيما كنت أقضم لقماتي بلهفة ونشوة، رددت أمي بأنها طبخت «المجدرة» الحمراء كرمى لي لأنها تعرف بأني أحبها، ولأنها أطيب «أكلة» تعرف هي أن تطبخها بسرعة، مثلما فعلت منذ ساعة. ثم تابعت بأنها ستملأ لي «مطبقيّة» (علبة حلاوة فارغة) كي آخذها معي إلى بيت أم جان. فهززت برأسي موافقاً وأنا أبلع ما في فمي. لحظات ونهضت وتركتني أُشبع بطني. فأكلت بتلذذ خفف ألم حروق رجليَّ. وكان الرغيف الكبير، الذي يوازي رغيفين، قد أعاد إليّ بعض النشاط والحركة في آن. فعدت وتمددت على «الصحاحير»، وأنا أمرر و «أطبطب» بيدي على بطني. ثم نمت على جنبي واضعاً يدي تحت خدي. وحين استيقظت من غفوتي، وجدت قرب «الصحارة» الأخيرة عند قدميّ، كيس ورق.

Pages