كتاب " الأوتاد " ، تأليف سعيد بن سلطان الهاشمي ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2008 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
You are here
قراءة كتاب الأوتاد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الأوتاد
متى استعبدتم الناس؟
لم يخرج مفهوم الحرية في المصادر الإسلامية عن المعنى التقليدي المعروف؛ الحُرُّ ضد العبد: فالرجل الحر يمتلك كبرياءً وأخلاقاً تبعثه على طلب الأخلاق الحميدة، والعبد بخلاف ذلك. من هنا استمر فهم الحرية على أنها خاصية أخلاقية تتلاقى مع مضامين كلمة "حرّ" كما عُرفت قبل الإسلام (2).
إلا أن ما يَلْفت النظر في هذا المقام حرص طلائع الإسلام الأولى والجيل المؤسس له؛ على تأكيد حرية الإرادة وحرية الاختيار للفرد. مما يدل على محورية الحرية في الإسلام: فالقرآن في نصوصه عزز من ذلك، حيث نجده يؤكد حق حرية الاعتقاد في: { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انْفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (3) وفي: { وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (4). فالاعتقاد الصحيح ناتج عن الاقتناع الكامل والتصديق الثابت، وأنه لا قيمة لعقيدة تأتي نتيجة القهر والتسلط.
وفي مناسبة تدل على حرية الرأي، والشجاعة في طرحه: قال أحد المسلمين مرة لعمر بن الخطاب: اتق الله، فلام بعض الحاضرين قائلها، فقال عمر: "لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نقبلها". إن قائداً مؤسساً كعمر يعي أنه لا خير في مجتمع لا يتقدم بآرائه ونصائحه لحاكمه. وعمرُ نفسه هو صاحب الكلمة المشهورة "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"؛ أي إن الحرية لازمة للإنسان منذ مولده. وهو ما أكّده مفكرو القرن الثامن عشر بعد هذه المقولة بألف عام تقريباً.
كما كانت حياة الرسول محمد صلى الله عليه وسلّم مثالاً على حرية التعبير عن الرأي. فنجده يقول لأصحابه في كثير من أمور الإدارة والحكم: "أشيروا عليَ أيها الناس"، وكان أمره شورى بينه وبين أصحابه كما وثّق القرآن ذلك: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } (5)، كما مُدح المؤمنون بسبب الشورى التي تميزهم عن المجتمعات الأخرى في: { وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } (6)، حرية التعبير إذن هي حق أصيل مارسه المجتمع المسلم، بل ُصنفت على أنها أفضل الجهاد "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر".
لذا يعتقد كثير من الدارسين لخصائص المجتمع على امتداد التاريخ الإسلامي؛ أن الأفكار والنظريات اليونانية حول الحرية على المستوى الفلسفي والأخلاقي والسياسي والميتافيزيقي صارت جزءاً من النسيج العام للفكر الإسلامي، بل باستطاعتنا القول إنّها تماهت مع هدف الإسلام لبناء الشخصية على مستوى الفرد والمجتمع. فالحرية الأخلاقية عند المسلمين تعني رغبة الإنسان في أن يكون طيباً، كما أن ضبط ذاك الإنسان لنفسه هو شرط ضروري لسيطرته على غيره. إن الحرية تعطي الإنسان العاقل القدرة على تحرير نفسه من قيود بيئته الطبيعية وعاداته الرتيبة، وبذلك تجعل منه إنساناً حكيماً (7).
كما تجدر الإشارة هنا إلى أهمية عرض نظرة المتصوفة للحرية، لأنها ميزة ميّزت الإسلام عن غيره في التعاطي مع هذا المفهوم، حيث إن الحرية مربوطة بالخضوع.
إن رسالة القشيري أعطت عرضاً متكاملاً لموقف المتصوفة من مفهوم الحرية: "فالحرية هي ألَّا يكون العبد تحت رق المخلوقات، ولا يجري عليه سلطان المكونات، وعلامة صحته سقوط التمييز من قلبه بين الاشياء" (8).
كما يرى ابن عربي أن الإنسان الحُر هو" ذاك الذي لا يستعبده امتلاك أو رتبة، إنه يحكم الأشياء كلها ولا تحكمه، وبالنسبة له فإن الإنسان هو عبد لله فقط، لا لأحد أو شيء غيره أيّاً كان ومهما كان، وعلى هذا فالحرية الحقيقية تكمن في العبودية الحقيقية لله" (9).
وفي تعريفٍ يؤكد ما ذهب إليه مفكرو الإسلام بشأن الاعتناء بالحرية ليس على مستوى المفهوم فحسب، وإنما على مستوى المسلك الإنساني: يرى رشيد الدين بن خليفة أن "الحرية هي الحياة الخيِّرة"، ويعرِّف الحرية على أنها التحرر من الشر، ومن العوامل التي تعيق الإنسان عن بلوغ الهدف الحقيقي لإنسانيته. إن تجنب الشرور التي ترتكبها الكائنات البشرية عادة هي الحرية الحقيقية، "فعسير على الإنسان أن يكون حراً وهو يخضع للأفعال القبيحة الجارية مجرى العادة" (10).