كتاب " رجل من الشر " ، تأليف إبراهيم الشامي ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
You are here
قراءة كتاب رجل من الشر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
رجل من الشر
(1)
كان الجو ملبداً بالغيوم والشمس تختفي خلفها وأشعتها تحاول جاهدةً اختراقها وزخّات المطر تغسل الطرقات وتطهّر الأرض وتجبرني على ارتداء معطفي الطويل.
استقللت مركبتي لأتناول قهوة الصباح في مناخ ندر أن يكون في مدينتي. نزلت من المركبة متفادياً تلك القطرات، خشية أن تصيب رأسي، بيدي لأدخل إلى مقهى لا يعيرني أي اهتمام كيفما وجهت نظري لخلوه من النساء في تلك الساعة الباكرة.
طلبت من النادل قهوتي، وبدأت أستمتع بالنظر من النافذة المبللة التي كانت تعبّر بابتسامة صغيرة عما يقوم به الناس تفادياً للمطر. ثم التفت نحو المبنى المقابل للمقهى حيث كانت الأمهات يجمعن ملابسهن عن الشرفات قبل أن تتبلل من جديد، بينما أطفالهن يمدون أيديهم متمنين أن يلتقطوا قطرات المطر ثم يتذوقوها - كما كنت أفعل في طفولتي -.
وصلت قهوتي والبخار يتصاعد منها. رحت أستمدّ الدفء منها قبل أن ألمسها، وبجواري رجلان كانت قهقهات مزاحهما تصل إلى أذنيّ. دفعتني عادتي السيئة في استراق السمع إلى الإنصات إلى حديثهما الشخصي حيث كانا يستعيدان حلاوة طفولتهما البائسة، وماذا كانا يفعلان في مثل هذا الطقس. إذ كانا يوقدان نيراناً في أزقة الفقر بحثاً عن الدفء وعن إشباع غريزة في تقليد عمال البناء، وكيف كانا يسرقان أعواد الثقاب من منزليهما ثم يجمعان ما استطاعا من قمامة الأوراق مبتهجين بإشعال النار بها وهما حولها. وتزداد حماستهما وثقتهما بأنهما أصبحا رجلين عندما تتصاعد ألسنة اللهب، ثم تتعالى ضحكاتهما بعد أن يرتجف قلباهما نتيجة فشلهما في إطفاء النار. كما راحا يتذكران كيف كانا يدخلان محلّ الحلوى أحدهما يلهي صاحب المحل والآخر يفرّ بما سرقه، أما صاحب المحل الذي يتراقص بطنه أمامه وهو يعدو خلفهما، فيثير الضحك ممن يمسك به منهما، ويستقبلانه بوابل من السخرية بعد أن يرجع خائباً.
وددت أن أشاركهما في مغامراتي مسترجعاً بطولات وأياماً بريئة رحلت من أعمارنا لنعيش سنوات طغى عليها الضجر والكدّ والتعب بلا متعة. كما رحلت أم كلثوم وأغانيها الرائعة وغمرت فضاءنا ألحان تتراقص بلا لون ولا طعم.
خرج صديقاي سريعاً بعد أن تركا حسابهما على الطاولة. أتى النادل لتنظيف المكان وأخذ ثمن الفاتورة وراح يكيل لهما السباب لأنهما لم يتركا له "بقشيشاً". تابعت حركات النادل وهو ينظف طاولة أخرى وقد ملأت محياه ابتسامة مما ترك له زبون آخر.
رجعت إلى نافذتي، أنظر منها وابتسامتي تداعب مبسمي وأنا أردد في قرارة نفسي: "أأشتم كل يوم لأني لا أترك بقشيشاً؟".
ثم قطعت على نفسي عهداً ستنكثه محفظة نقودي يوماً ألاّ أترك بقشيشاً ما دمت حياً.
خرجت من المقهى وقد تركت قيثارة طفولتي على المنضدة.
وجدت الرجلين وقد تعطلت مركبتهما. أحدهما ينفث الدخان من فمه وهو يركل بقدمه إطار المركبة. أشفقت عليهما لوقوفهما تحت المطر، وأبديت استعداداً لتقديم خدمة لهما من نافذة مركبتي - وكأن لعنة النادل أصابتهما -. كان تدفق الأمطار سريعاً لم يدع لهما خياراً غير الركوب معي، فأوصلتهما إلى حيث يشاءان. عرفت بنفسي وبعملي - هكذا جرت العادة - ثم تكلم يوسف، بطل قصتنا، وفعل مثلما فعلت. تفرست في ملامحه إنه يشارف غروب العشرينات من عمره، خفيف العارضين وربما، هكذا خُيِّل إليّ، كان ذلك مجلبة لإعجاب النساء. لقد كنت أطول منه وأضعف جسماً. أما صاحبه فكان يجلس في الخلف وهو يجفّف وجهه وشعره ونظارتيه من قطرات المطر، وقد نسيت اسمه بمرور الزمن حتى ملامحه لم أعد أستطيع رسمها على لوحة ذاكرتي.
تمتمت شفاههما بالدعاء والشكر لي، فبادلتهما ذلك بابتسامة على وجهي.
تردّدت مراراً إلى المقهى عسى أن أجدهما ثانية، لكنني لم أصادف أحداً.