كتاب " ظاهرة التبادل اللغوي في العربية " ، تأليف د. عاطف طالب الرفوع ، والذي صدر عن
قراءة كتاب ظاهرة التبادل اللغوي في العربية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
1.1 التمهيد
الحمدُ لله حمداً يليقُ بجلالِهِ وكبريائِهِ وعظيمِ نعمائِهِ وامتنانِهِ، الحمدُ لله القائلِ في كتابِهِ: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف:2].
لقدْ أودعتْ اللُّغةُ العربيَّةُ منْ الدُّررِ والكمائنِ والأسرارِ ما تعي الألبابُ الإحاطةَ بِهِ، فمنْ تعمَّقَ في العربيَّةِ، وسبرَ غورَها، حتماً سوفَ يجدُها بحراً عميقاً يحفلُ بالدُّررِ واللآلِئ، ومنْ بينِ هذِهِ الدُّررِ الَّتي استوقفتني (ظاهرةُ التَّبادلِ اللُّغويُّ في اللُّغةِ العربيَّةِ)، حيثُ جعلْتُها قلادةً لدراسةِ الدَّكتوراه.
تميزتْ اللُّغةُ العربيَّةُ، واكتسبتْ قيمةً عاليةً بينَ اللُّغاتِ بما توافرَ فيها منْ مِيْزَاتٍ وخصائصَ أسلوبيَّةٍ وبيانيَّةٍ قدْ لا تتوافرُ في غيرِها منْ اللُّغاتِ، فهي منْ أخصبِ اللُّغاتِ وأغناها، وأفصحِها ألفاظاً وتراكيبَ، وأجملِها بياناً، وأعذبِها شعراً.
وإلى جانبِ تميُّزِها في الصِّفاتِ الجماليَّةِ والبيانيَّةِ فهي تمتازُ بكثرةِ ألفاظِها وتراكيبِها على الرَّغمِ مِمَّا فقدتْهُ بسببِ تشاغلِ العربِ، يقولُ عمرُ بنُ الخطابِ t : «كانَ الشِّعرُ علمَ قومٍ لمْ يكنْ لهُمْ علمٌ أصحُّ مِنْهُ، فجاءَ الإسلامُ، فتشاغلتْ عنهُ العربُ، وتشاغلوا بالجهادِ وغزوِ فارسَ والرُّومِ، ولهتْ عنْ الشِّعرِ وروايتِهِ، فلمَّا كَثُرَ الإسلامُ، وجاءتْ الفتوحُ، واطمأنتْ العربُ بالأمصارِ، راجعوا روايةَ الشِّعرِ، فلمْ يؤولوا إلى ديوانٍ مدوَّنٍ ولا كتابٍ مكتوبٍ، وألَّفُوا ذلك وقدْ هلكَ منْ العربِ منْ هلكَ بالموتِ والقتلِ، فحفظوا أقلَّ ذلك، وذهبَ عليهِمْ مِنْهُ كثيرٌ»([1]).
وقالَ يونسُ بنُ حبيبٍ: قالَ أبو عمرِو بنُ العلاءِ: «ما انتهى إليكم ممَّا قالتْ العربُ إلا أقلُّهُ، ولو جاءَكم وافراً لجاءَكم علمٌ وشعرٌ كثيرٌ»([2]).
ومنْ أهمِّ مِيْزَاتِ ومكوناتِ اللُّغةِ العربيَّةِ النَّحوُ؛ النَّحوُ الَّذي ينتظمُها وَفْقَ منظومةٍ منْ القواعدِ والمعاييرِ والأسسِ الَّتي تشيدُ لغةً فصيحةً جَزْلَةً بليغةً. قالَ ابنُ جنِّيٍّ معرِّفاً النَّحوَ: «هو انتحاءُ سَمْتِ كلامِ العربِ، في تصرُّفِهِ مِنْ إعرابٍ وغيرِهِ، كالتَّثنيةِ والجمعِ والتَّحقيرِ والتَّكسيرِ والإضافةِ والنَّسبِ والتَّركيبِ وغيرِ ذلك؛ لِيلحقَ مَنْ ليسَ مِنْ أهلِ اللُّغةِ العربيَّةِ بأهلِها في الفصاحةِ، فينطقَ بها وإنْ لمْ يكنْ مِنْهُمْ، وإنْ شذَّ بعضُهُمْ رُدَّ بِهِ إليها»([3]).
وللنَّحْوِ ِمنزلةٌ رفيعةٌ، ومكانةٌ جليلةٌ بينَ علومِ اللُّغةِ العربيَّةِ، فهو دليلٌ ناصعٌ على عبقريَّةِ منْ استنبطَهُ، وحدَّ حدودَهُ، ووضَّحَ معالمَهُ، وقدْ أقرَّ المستشرقُ الألمانيُّ (دي بور) بمكانةِ هذا النَّحوِ وفضلِهِ قائلاً: «اعلمْ أنَّ النَّحوَ أثرٌ رائعٌ منْ آثارِ العقلِ العربيِّ لِمَا فيه منْ دقَّةٍ في الملاحظةِ، ونشاطٍ في جمعِ ما تفرَّقَ، وهو لهذا يحملُ المتأمِّلَ فيه على تقديرِهِ، ويحقُّ للعربِ أنْ يفخروا بِهِ»([4]).
وإلى جانبِ النَّحوِ مكانةً وقَدْرَاً يقفُ الصَّرفُ أو التَّصريفُ، حيثُ جاءَ في اللُّغةِ؛ الصَّرفُ: هو الوَزْنُ، والتَّصْرِيفُ: اشْتِقاقُ الكلامِ بَعْضِهِ منْ بَعْضٍ. وتَصْرِيْفُ الرِّيَاحِ والسُّيُولِ والخُيُولِ: إجْرَاؤها منْ وَجْهٍ إلى وَجْهٍ أوْ تحويلُها منْ حالٍ إلى حالٍ([5]).
أمَّا معناهُ الاصطلاحيُّ فقدْ ذكرَ ابنُ القُبَيْصيِّ (ت: 626هـ) أنَّ التَّصريفَ «أنْ تأتيَ إلى الكلمةِ الواحدةِ الَّتي حروفُها كلُّها أصولٌ فتتصرَّفَ فيها بزيادةٍ، أوْ نقصانٍ، أوْ نقلٍ منْ زمانٍ إلى زمانٍ»([6])، وذكرَ أيضاً ابنُ مالكٍ (ت: 672هـ) أنَّ التَّصريفَ: «علمٌ يتعلَّقُ بِبِنْيةِ الكلمةِ، وما لحروفِها منْ زيادةٍ وأصالةٍ وصِحَّةٍ واعتلالٍ وشبهِ ذلك»([7]).
إنَّ النَّحوَ والصَّرفَ أو التَّصريفَ يتعاضدانِ، ويندمجان جنباً إلى جنبٍ، ويشكِّلان لُبَّ اللُّغةِ العربيَّةِ وجوهرَها، بهما يقوَّمُ اللِّسانُ، ويحلو البيانُ، وجاءَ في شرحِ المِراحِ للعينيِّ: «اعلمْ أنَّ الصَّرفَ أمُّ العلومِ، والنَّحْوَ أبوها»([8]).
ومنْ الظَّواهرِ النَّحويَّةِ والصَّرفيَّةِ الَّتي انتشرتْ مسائلُها وقضاياها وصورُها في مصنَّفاتِ ومؤلَّفاتِ العلماءِ والباحثينَ قديماً وحديثاً ظاهرةُ التَّبادلِ اللُّغويِّ لا سيَّما في الأحكامِ النَّحويَّةِ والتَّصريفيَّةِ، حيثُ سَتُعْنَى هذهِ الدِّراسةُ ببيانِها، وإماطةِ اللِّثامِ عنْ مسائلِها، واستقصاءِ آراءِ العلماءِ فيها، وأثرِها في إغناءِ العربيَّةِ، وإبرازِ دورِها في الكشفِ عنْ سَعَةِ اللِّسانِ العربيِّ - إنْ شاءَ اللهُ -.