You are here

قراءة كتاب نزهة الخاطر

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
نزهة الخاطر

نزهة الخاطر

كتاب " نزهة الخاطر " ، تأليف أمين الزاوي ، والذي صدر عن منشورات ضفاف ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 6

جدتي الحاجة البتول، على كل هي لم تحج يومًا، ولكن الناس ألحقوا باسمها هذه الصفة، فقبلتها على مضض؛ لأنها تعتقد بأن كل من يناديها باسم "الحاجة" لا ينتظر سوى موتها، فالحاج هو من شاخ وانتهت جميع رغبات الحياة لديه، أما جدتي فكانت امرأة حياة، تعض على الدنيا بأسنانها التي ما فقدت منها ولا واحدة، عدا سن العقل! تحب الأكل والحديث ومخاصمة الناس ومحاسبة أمي وزوجة عمي حسابًا دقيقًا، وتعتني بدجاجها العناية القصوى، تعد الرؤوس واحدًا واحدًا، حين مغادرة الخم، ومثله عند العودة مع سقوط الليل، ولا تفرط في مربعات نعناعها وقزبرها النابت في اخضرار مدهش، عند مدخل البيت الكبير العامر ذي العماد المتين، تسقيه وتقلب الأرض حوله باستمرار.

كانت جدتي البتول ثخينة، بكّاء، شكّاء، لا تستطيع لمَّ لسانها في فمها، تعاني مرض السكر الذي يرافقها من سنوات، ومع ذلك لم تكن قادرة على الكف عن تناول الحلويات وجميع أنواع السكريات. يقال عنها إنها، ومنذ صغرها، لم تكن تعشق سوى ما هو محرم عليها، متمردة وملحاح، لذا فزواجها بجدي الحاج عبد المؤمن له حكاية قد تطول روايتها، في كل مرة تحكيها وبتفاصيل مختلفة وغريبة.

فقد تزوجها هذا الأخير بعد أن عشقته؛ إذ شاهدته يركب حصانه ويلعب الفانتازيا في عرس أحد شباب القرية، كان وسيمًا من سلالة الأمراء، فهو حفيد القائد عبد المؤمن الكومي، فما كان منها إلا أن تدبرت حيلة تنقذها من زوجها الذي كانت معلقة في رقبته، والذي له معها ولد وبنت وبطن ممتلئ بقادم على الطريق، إذ ذهبت عند شيخ الجامع الكبير يوم الجمعة، وكان هذا الإمام معينًا من قبل الإدارة الفرنسية، فمنحته بعض ذهبها من خواتم وحلق وأساور وبكت حالها إليه، طالبة منه أن يتدخل للسماح لها بخلع زوجها، متهمة إياه بعجز في أداء واجب الفراش، وهي التي تحب الفراش كثيرًا، تحب سُكَّر الأكل وعسل الفراش، والثاني أحب إلى قلبها من الأول، فما كان من الشيخ إلا أن أذن لها بذلك، فكان الذي رغبت فيه.

في أيامها الأخيرة، كانت لا تتوقف عن ترديد هذه العبارة: "الحياة سُكَّر أكل، وعسل فراش". تقول لنا ذلك وقد أصابها مرض الكآبة، وهزمتها الشيخوخة اللعينة التي هجمت عليها مبكرًا؛ فانهار جسدها الذي كان جميلاً، والذي مع ذلك كان لا يزال يحتفظ بأطلال تحيل وتذكر بجمال ولّى واختفى.

لم يكن أحد بالبيت الكبير يحب جدتي، ومع ذلك لم يكن أحد من ساكنيه يمكنه تصور هذا الفضاء العائلي بدونها، فهي من يملؤه صخبًا وشتمًا وأمرًا ونهيًا وكلامًا بذيئًا. الجميع يدعي أنه يغلق أذنيه حين تفتح جدتي فمها، ولم أر أحدًا يفعل ذلك، على العكس تمامًا فالجميع كان يحب سماع وقاحتها مقهقهًا. كان الجميع يتحاشى لسانها ولكن لا أحد كان يحمل كلامها على محمل الجد، وقد بدأت تهذي كثيرًا ولا تتردد في أن تخرج في قيلولات الصيف القائظ شبه عارية أمام الجميع.

أحببت جدتي البتول لشيء واحد وغريب، أحببتها حين علمت أنها اصطفت من كل دجاج الخم ديكًا أعطته اسمًا هو "ميمون"، وقالت عنه: "إنها حررته"! ما معنى "الديك المحرر" في منطق جدتي؟ لقد قررت جدتي ألا يُذبح هذا الديك ولا يُباع، وهو بالفعل ما كان، وقد كبر وأصبح له عرف بطوابق حمراء وقائمتان بأظافر كبيرة كحوافر الدواب، وريش كريش الطاووس. كان يأكل من يدي جدتي ويشرب من إناء خاص به، وكانت لا تنسى أن تحممه بزيت الزيتون الأصلي مرة كل ثلاثة أشهر، تمسّد له الأطراف وتدهن له الرأس، وتتركه لساعات أمام الشمس. وفي الشتاء يقضي ليله في الغرفة التي تتقاسمها مع جدي، كان له فراشه الخاص به، لا أحد منا نحن الصغار كان ليتجرأ على إزعاج هذا الديك المحرر، بل كنا نخاف لمسه؛ إذ كانت جدتي تؤكد لنا أن من يمس الديك بأذى يصيبه الله بأن يسلط عليه مرضًا اسمه "بورجاف"، حيث يعيش بيدين مرتجفتين طوال عمره. كنت أهرب كلما صادفت الديك في الساحة، ومثلي كان يفعل الجميع من أقراني، كنت أخاف أن ألمس ريشه فأصاب بمرض البورجاف. كان ديك جدتي ميمون يعرف اسمه، فبمجرد أن تناديه جدتي بهذا الاسم يسرع إليها، وكانت تحتفل بعيد فقْسه، أي اليوم الذي خرج فيه من البيضة، أي عيد ميلاده، كان ذلك في الثامن من أبريل، وحين بلغ عامه الثامن بدأ يفقد ريشه وأيضًا قوة بصره، وكانت جدتي لا تتوقف عن دهن ريشه حتى لا يسقط، ووضع نوع من العقار السائل في عينيه حتى يرى، وهو نفس العقار الذي كانت تستعمله هي نفسها، وتقطر منه في عيني جدي أيضًا. والعجيب في الأمر أن جدتي وميمون، ديكها المحرر، بدآ يفقدان السمع والبصر بشكل متواز وبذات الوتيرة، حتى إنه لم يعد يسمع صوتها إذ تناديه لتناول قمحه أو شرب مائه، فكانت تنادي عليّ كي أنادي بدوري عليه وبصوت عال، وكنت أقوم بذلك، وفي كل مرة أحقق انتباه ميمون تمنحني جدتي بيضة مسلوقة بالملح والكمون، كم كان بيضها لذيذًا ياإلهي، وكنت أتمنى أن يظل ميمون على صممه كي آكل كل مرة بيضة مسلوقة!

يعجبني بيض جدتي المسلوق المغمس في الكمون والمرشوش بالملح، لكني أحب فوق ذلك مربى المشمش.

لم ألمس في حياتي الديك ميمون إلا مرة واحدة، يومها وقعت الواقعة، كنت بجوار جدتي أساعدها في تنظيف الإناء الذي تضع له فيه حفنات القمح أو النخالة المبلولة بقليل من الماء، جاء الديك وبكل طمأنينة مر بيني وبين جدتي فلامست ريشه، أو على وجه الدقة هو من لامسني بريشه، وعلى إثر ذلك انطلقت مسرعًا، حتى دون أن أخبر جدتي بالواقعة التي وقعت، إلى غرفة والدي في الجناح الآخر من البيت الكبير، أخرجت كيس صابون الغبرة أومو، وبدأت في فرك يدي سبع مرات بالتراب أولاً ثم مثلها بالماء والصابون، وفي كل مرة كنت أغسل فيها يديّ أشعر بهما ترتجفان؛ فأقرأ الفاتحة وأشعر برغبة متواصلة في التبول. قضيت النهار ويداي في جيبـي، في الليل لم أستطع أن أنام إذ كنت أشعر بيدي اليمنى ترتجف فأنام عليها، أتوسدها فلا تتوقف عن الارتجاف، وعند الصباح نسيت ارتجاف يدي، ومع ذلك قررت ألا أعود لمساعدة جدتي في الشؤون المتصلة بالديك ميمون.

كان لميمون الحق، كل الحق، في أن يدخل جميع الغرف دون أن يزعجه أو ينهره أحد، بل من دخل غرفته يكون سعيدًا؛ لأنه، كما تقول جدتي، حامل للحظ والشفاء وبشارة خير كثير، وكانت أمي مؤمنة بذلك إيمانًا عميقًا، فما يكاد يدخل غرفتها أو غرفة أخواتي حتى تسرع لتنثر له بعض حفنات قمح، وترشه بالملح وتتمتم بعض الدعوات، وترفع يدها إلى جبهتها وكتفيها وتقوم بصلاة في حركات من يديها على شكل رسم صليب، تشبه صلاة المسيحيين وهي تقرأ الفاتحة وآية الكرسي.

لا أحد كان يمكنه أن يتصور البيت الكبير خاليًا من ميمون الديك؛ فهو الكائن الجامع بين أفئدة الناس، وهو القادر على رفع كل خصومة أو مقاطعة أو كراهية قد تنشب بين أهل البيت، وما أكثرها، فما أن يدخل غرفة إلا وتسرع صاحبتها إلى إخراج خبزة مطلوع، تقسمها قطعًا صغيرة في طبق من الحلفاء، ثم توزعها على ساكنة البيت الكبير، الكبار والصغار دون استثناء، وبالتالي تمسح كل الخصومات، وتعود الحياة إلى مجراها الهادئ. كان ميمون وسيط سلام بين أهل البيت الكبير، وعامل مصالحة بين المتخاصمين والمتخاصمات.

Pages