You are here

قراءة كتاب نزهة الخاطر

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
نزهة الخاطر

نزهة الخاطر

كتاب " نزهة الخاطر " ، تأليف أمين الزاوي ، والذي صدر عن منشورات ضفاف ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 10

4

أحب مربى المشمش، وأحب أخي مازار أيضًا..

في غفلة مني، يلمحني جدي بطرف عينه وأنا أغمس أصبعي في بوقال مربى المشمش، يقول لي بنوع من السخرية المليئة باليقين: إن هناك نوعًا من شجر المشمش يثمر علب المربى! حيث تعطي الشجرة بدلاً عن حبات المشمش التي تباع في الأسواق علبًا صغيرة، ثم تكبر وتكبر، حتى تستوي فتقطف كما تقطف الفاكهة، وكما حبات المشمش، فمن العلب ما هو صغير وبعضها متوسط وثالثها كبير.

كنت أصدق كل هذا الكلام، وأنا أغطس أصبعي في البوقال وأقول لجدي: لماذا لا نغرس بدل شجرة التين شجرة مشمش تثمر لنا علب المربى؟

وكان يضحك.

كنت أفكر في أصبعي المغطس في بوقال مربى المشمش، وأنا أتبع أخي مازار الذي يسير أمامي، بيني وبينه متران أو أقل، كان سريع الخطى، كالحمَل الوديع، مترددًا، خائفًا كنت أمشي، أجر قدمي في الغبار جرًّا، أمشي خلفه طورًا وإلى جنبه طورًا آخر، كنا نتقدم في اتجاه مدرسة القرية المركزية التي تبعد حوالي ستة كيلومترات عن بيتنا الكبير، بيت الطاعة والكبائر.

هي المرة الأولى التي أقطع فيها هذا الطريق الفاصل بين قريتنا "باب القمر"، والقرية الرئيسية التي تحوي عجائب الدنيا جميعها؛ ففيها: بقالية تفتح مرتين في الأسبوع، يومي الاثنين والخميس، وإضافة إلى ما توفره من حاجيات لفلاحي المداشر، فإنها تقوم مقام البريد؛ إذ تمثل نقطة إيداع جميع الرسائل التي تصل إلى الأهالي من ذويهم وأقاربهم في المهاجر، وكذا بعض الحوالات الشهرية القادمة من مؤسسات التأمينات موجهة للعمال المتقاعدين، الذين لفظتهم آلات العمل الوحشية الفرنسية، والذين عادوا إلى القرية ينتظرون الموت تحت الشمس. يتولى حمل هذا البريد مساعد سائق الحافلة التابعة لشركة الدولة لنقل المسافرين، والتي تعبر القرية مرة كل يوم، وفي مواعيد مختلفة، فساعة مرورها مرتبطة بأعطابها الميكانيكية المتكررة، وبسلامة الطريق التي تقطعها من مدينة تلمسان إلى آخر نقطة لها هي محطة قرية مرسى بنمهيدي، حيث تقضي الليل هناك لتقفل راجعة فجر اليوم التالي. كثيرًا ما كانت الحافلة تغيب لأيام، خاصة في فصل الشتاء، حين يفيض وادي التافنة بماء مجنون بلون التراب، فيخرج عن سريره، جارفًا معه المواشي وبعض البشر والدور والشجر، في مثل هذا الوضع يتعذر على الحافلة عبور المجرى الهائج، وحين تغيب الحافلة لا يقلق ناس قرية باب القمر أبدًا، بل يعدون ذلك من كرم السماء على الأرض، وعلامة من علامات صيف قادم سيأتي بغلة وافرة وخير مديد.

وتضم قرية باب القمر مقرًّا صغيرًا للبلدية، عبارة عن بناية مهترئة تعود إلى زمن الاستعمار، كانت مقرًّا ومخفرًا لحرس الحدود من العسكر الفرنسيين، وبعد الاستقلال اتخذ منها حارس الغابة مسكنًا قبل أن يخليه، لتتحول إلى بلدية حسب التقسيم الإداري الجديد لدولة الاستقلال. أما رئيس البلدية الشيخ سليمان (غريب، كل الناس هنا اسمها سليمان!) فهو الشخص الوحيد في القرية الذي يناسبه هذا الاسم، لما له من قوة خارقة تفوق قوة سيدنا سليمان الذي كلم النمل والجن وكان يعرف لغة الطير و... فرئيس بلديتنا، كما يروي بعظم لسانه، شارك في حروب كثيرة لا تعد ولا تحصى، إذا ما صدقنا قصصه وجمعنا سنوات حروبه وأسفاره، يكون عمره قد جاوز القرن بكثير؛ فهو قد شارك مع جيوش نابليون في حربه على روسيا، وشارك قائدًا كبيرًا في الحرب العالمية الأولى على جبهة حلب في بلاد الشام، وقاد حربًا ضروسًا مع الحلفاء في منطقة نورمانديا في الحرب الكونية الثانية، وشارك في حرب ديان بيان فو... يمشي في القرية يوم السوق الأسبوعي بكثير من النياشين على صدره، وقد أطلق عليه مساعد سائق الحافلة اسم: بريجنيف، لا أحد في القرية يعرف معنى هذا الاسم، ولكن الجميع يناديه به، وحتى هو قبل بذلك، ولم يعد يحرجه هذا الاسم.

كان بريجنيف يخطب في شعبه من الأهالي كلما أتيحت له الفرصة، يستعد لذلك أيّما استعداد، في اللباس وحلاقة الرأس والشوارب، لهذا الغرض يسافر حتى مدينة مغنية، وحين يعود وبه بقية من عطر رغوة صابون الحلاقة يمر على الجميع كي يشتموا تلك الرائحة المثيرة. خطبته كخطبة طارق بنزياد الجميع يحفظها، فهو يكرر نفس العبارات مرات عديدة في السنة، في الأعياد الوطنية والدينية والمدنية، وفي كل خطبة يقسم أنه سيحرر فلسطين كاملة غير منقوصة، كما حرر الجزائر من فرنسا، وقبلها حرر فرنسا من ألمانيا!! يمسك على نياشينه ويعيد العبارة مرات، ويصفق الناس له كثيرًا، ويفرح كثيرًا حين تمتلئ ملامحهم بشحنة الفرح، ويصبح شبيهًا بطفل خجول.

Pages