كتاب " أسلمة المنطق " ، تأليف عبد الكريم عنيات ، والذي صدر عن منشورات ضفاف
You are here
قراءة كتاب أسلمة المنطق
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
وعند إطلاعنا على هذا الموضوع، عثرنا على دراسات أكاديمية سابقة مهمة تناولت بصورة كلية أو جزئية هذه الفكرة. فقد وجدنا في اللغة العربية الكثير من الأعمال التي تتحدث عن إسلامية المعرفة في القديم، أي في العصر الإسلامي الكلاسيكي بوجه عام، دون تخصيص مفكر بمفرده أو تخصص بعينه. مثل الدراسة التي قام بها الدكتور "محمد علي أبو ريان" في مؤلفه الذي يقع في أكثر من أربعمائة صفحة، الموسوم بـ: "أسلمة المعرفة: العلوم الإنسانية ومناهجها من وجهة نظر إسلامية". ومجمل ما عرضه في هذا المؤلف بعد عدة فصول تمهيدية مرتبطة بالعلم وتصنيفه وأزماته، هو باب خصص للعلوم الإنسانية من منظور إسلامي أو "أسلمة العلوم الإنسانية" فيه بيّن مواطن الأصول القرآنية والإسلامية لعلوم إنسانية مثل الفقه كمصدر لكل علم إنساني في الإسلام وعلم الاقتصاد والسياسة والاجتماع الإسلامي وفلسفة الأخلاق الإسلامية والقانون وبعض العلوم الإنسانية الأخرى مثل التاريخ وعلم النفس والتربية، ورغم أنه لم يخصص فصلا أو مبحثا للمنطق إلا أنه توصل في نتائج بحثه إلى أن: ((العلم الإسلامي الذي يرتبط بقاعدة الإيمان قد ازدهر في عصور الإسلام الخوالي، وأصبح علما شموليا، رغم ارتباطه بقواعد الدين والإيمان الحق، ومعنى هذا أننا نوجه النظر إلى دعاة التغريب والمهاجمين لربط العلم بالدين ليعلموا أن هذا الارتباط لن يكون عقبة في سبيل تقدم العلوم، وقد ضرب المسلمون المثل على صحة هذه الدعوة...))[6].
ونفهم هنا أن الدافع دائما هو هاجس العلم الوافد من البلاد غير الإسلامية، فهذا الهاجس الذي كان يسكن الكثير من مفكري الإسلام فقهاء أو أصوليين أو حتى فلاسفة في العصر الإسلامي الكلاسيكي، عاد للظهور عند بعض مفكرينا في الأزمنة المعاصرة. وفي الحقيقة أن هذا العمل لا يختلف من حيث الجوهر مع كتاب الدكتور علي سامي النشار المسمى "مناهج البحث عند مفكري الإسلام" الذي سنخصص له حديثا مستقلا لاحقا. وسوف نرى أن هذه الحركة اتخذت شكلا أكثر تنظيما ومنهجية عند بعض مفكري المهجر. ونقصد بهذا الأعمال التي تصدرها الدكتور العراقي "طه جابر العلواني" الذي قام بعملية التأريخ لهذه الحركة القديمة، أي حركة إسلامية المعرفة عموما بداية بالجيل الأول وهو جيل الفلاسفة الكبار أمثال الغزالي (450 - 505 هـ) وابن تيمية (661 - 727 هـ)، وكذلك جيل القرن الثامن والتاسع عشر. حيث أن التواصل الذي حدث بين الشرق الإسلامي والغرب الوثني (والمسيحي لاحقا)، على مر العصور قد ولّد أزمات فكرية ومعرفية لدى المسلمين، وجعلهم يتباحثون في كيفية العمل والتصرف. والمنهج الملائم للتوفيق بين الإلهي والإنساني... الذي يظهر الانفصال بينهما في مستوى الفلسفة والحكمة، وإصرار البعض على الفصل بين الجانبين. لذا كان العمل المناسب هو استرجاع الإبستميولوجي إلى حيزه الأصلي وهو القيم والدين أو ما يسمى بأسلمة المعرفة.[7]
أما الأعمال التي تناولت مسألة المنطق عند الغزالي، وكيفية تعامله مع التراث اليوناني عموما والأرسطي المنطقي على وجه الخصوص - في حدود علمنا واطلاعنا المتواضع والمحدود -، فإننا نجد بعض الدراسات المهمة مثل أحد فصول كتاب الدكتور علي سامي النشار وهو "مناهج البحث عند مفكري الإسلام". رغم أنه يتسم بالعرض العام والشمولي مغفلا التفاصيل الجزئية التي تكون مهمة في الكثير من الأحيان. كذلك نجد مؤلف الدكتور محمد مهران الموسوم بـ"المنطق والموازين القرآنية" ورغم أهميته الشديدة وتحليله العميق، إلا أنه اقتصر على كتاب واحد فقط من كتب الغزالي المنطقية وهو كتاب "القسطاس المستقيم". والحق أن هذا الكتاب يمثل خلاصة مواقفه من المنطق الأرسطي لذا سوف نحاول قدر الإمكان الاستعانة به والاستفادة منه، مع توسيع البحث ليشمل كتب الغزالي المنطقية الأخرى غير القسطاس. ونجد كذلك دراسة لأحد مؤرخي الفلسفة والمنطق وهو "كارل برانتيل" Prantl الذي قدم دراسته Geschichte des logik في الجزء الثاني ص 361 وما يليها، رغم أن المنطقي المعاصر "يان لوكاشيفيتش" يتهمه بالجهل فيما يخص تاريخية المنطق إذ لم يستطع التمييز بين القياس الأرسطي والقياس التقليدي، كما أنه أخطأ كثيرا في حديثه عن الشكل الرابع من أشكال القياس الحملي.
كل هذه الأعمال وغيرها المرتبطة إما بالفلسفة اليونانية عامة، أو فلسفة أرسطو على وجه التحديد، أو الفلسفة الإسلامية التي تتناول أعمال الغزالي وما بعده. والكثير من كتب الفكر العربـي المعاصر التي تدرس التراث الإسلامي إما دراسة تمجيدية أو تمحيصية، سوف تكون عونا لنا في إنجاز هذا العمل. بالإضافة إلى الملاحظات التي نقدمها والنابعة من خلاصات التحليل والتركيب والتي تعبر عن موقف المؤلف من هذه القضايا التراثية الحساسة والتي تشكل اهتمام وانهمام كل مفكر عربـي معاصر ينظر إلى قيمة تراثه بمنظار حذر، وهو الموقف الذي تطرق إليه كل مفكري عصر النهضة العربية ابتدءا من الشيخ محمد عبده وعلي عبد الرازق والدكتور طه حسين وزكي نجيب محمود لاحقا... وصولا إلى محمد أركون وهاشم صالح وغيرهم كثيرون لا يمكن ذكرهم جميعا، لأن مشكلة أسلمة المعرفة عموما والمنطق على وجه التحديد من المسائل المنهجية التي أنجزها الأجداد وتم إعادة المحاولة مرة ثانية في الأزمنة المعاصرة مع طائفة من المفكرين الذين يمثلون نخبة محترمة ومن هنا يعود القديم إلينا طافيا فوق السطح، أفلا يحق لنا تقييم التجربة الأولى تقييما صارما قبل الخوض في التجربة الثانية؟ هذه هي الملاحظة التي قدمها الدكتور "البوطي" وشكك في إمكانية نجاح هذه التجربة المعاصرة[8] رغم أن شكوكه محدودة موجهة وليست محضة خالصة. أليس تقييم التجارب والعمل بهذا التقييم عمليا هو سبيل السير العقلاني النافع لحضارة بدأت التخبط لبلوغ مرتبة العقلانية منذ القديم ولا زالت تسعى لذلك؟ أليست المراجعة ونقد الذات هي أجدر خطوة لتأسيس حضارة العقل؟
لذا فمنهجية هذه الدراسة، ستكون مختلفة عن منهجية الكتب السابقة، والتي تناولت موضوع الأسلمة إن بوجه عام أو عن طريق التقسيم والتخصيص. لأنها في الحقيقة كانت تحلل الموضوع من منطلقات ناجزة وجاهزة، بمعنى أن الكتب السابقة الذكر تحاول إثبات أطروحة مقتنعة بصحتها أصلا وبصورة مستبقة للبحث. وفي اعتقادنا أن هذا المسلك يتنافى وخصوصيات البحث العلمي المنفتح على كل الإمكانيات المحتملة، ولو كانت على حساب التمجيد الإيديولوجي للذات التاريخية والاجتماعية. لذا فالخوف من نتائج الدراسة لا يشكل أي اعتبار بالنظر لهدف الحقيقة المتعال عن كل توجيه أو توظيف لا علمي أو مناهض للعلمية، وهنا نستحضر أجمل ما قاله أفلاطون في أحد محاوراته الكثيرة، إذ يعلن على لسان الغريب الإيلي حازما عاقدا العزم على توجيه مجهوده نحو الحقيقة فقط: ((نحن لسنا محترمي أشخاص، بل باحثون عن الحقيقة)).[9] وعلى هدى هذه المقولة التي ترتفع إلى درجة الحكمة البحثية والشعار الإجرائي، سنبحث موضوع أسلمة المنطق عند الغزالي دافعين السؤال الفلسفي إلى الأمام دوما وأقصى الحدود التي يحتملها العقل المتسائل الذي لا يخاف من الحرية والحقيقة معا، على اعتبار أنهما مترافقان، إذ لا يمكن لنا كشف حقائق الأمور إن كان عقلنا عقالا أو معتقلا.