You are here

قراءة كتاب أسلمة المنطق

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أسلمة المنطق

أسلمة المنطق

كتاب " أسلمة المنطق " ، تأليف عبد الكريم عنيات ، والذي صدر عن منشورات ضفاف

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 6

ويواصل رينان من بين المستشرقين، المتعمق في الفلسفة الرشدية خاصة، إبداء إعجابه بالغزالي رجلا ومفكرا، من حيث نـزعته الإبداعية ومنهجه الشكي وفطنته الذهنية، وأصالة فكرته الهادمة للعلية مقارنة بلاحقيه من الفلاسفة في الغرب الحديث. ورغم انتقاله من التفلسف إلى معاداة الفلسفة، فإنه اشترط بلوغ الكمال في المعرفة والعمل على ممارسة العلم العقلي دون انتقاص.[13] ولعل القارئ يلاحظ هنا أن كل الاستشهادات كانت في جملتها من النصوص الاستشراقية، وتبرير ذلك لا يعود إلى ميل المؤلف لهم ومناصرتهم بقدر ما يعني الاحتكام إلى دارسين ومؤرخين أقل ما يقال عنهم أنهم موضوعيون ولا يقبلون الراويات التفخيمية والتعظيمية في حق تراثنا أو مفكرينا. وهذا التوجه قد استقاه الباحث من الموقف الطريف للأستاذ "مالك بن نبـي"، فقد كان دائم التساؤل حول أيهما أحسن لوعينا الحاضر: المستشرقين المادحين أم القادحين لتراثنا؟ هذا السؤال طرحه عندما حلل مشكلة إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث، فإن َشعَر معظم المفكرين المسلمين بالاعتبار والاعتراف بالجميل بعد صدور كتاب "شمس العرب تسطع على الغرب" ونظموا ندوات تكريمية، فإن هذا لا يعدو أن يكون حقنة من بين العديد من الحقن الاعتزازية التي تكدس تأخر آخر للمسلمين على تأخرهم الأصلي، وينتهي "بن نبـي" إلى أنه إن كان هناك وجه إيجابـي لأعمال المستشرقين، فإنه يلمسه في أعمال القادحين لا المادحين[14] فنحن بحاجة إلى نقد الذات كشرط للنهضة وليس عكس ذلك، أي تعظيم الذات من أجل النهضة والبقاء. والتاريخ مفعم بأمثلة تؤكد أن الشك هو أساس اليقين وأن الصرامة تجاه الذات هو أساس التحضر.

هذا النهج المادح لفكر وشخص الغزالي من المستشرقين الصارمين، اللذين لا يعترفون إلا عن جدارة، والكثير من الباحثين المعاصرين تجاه تراثهم المجيد للغزالي، ظاهر في الكثير من الأقوال المدرسية القائلة مثلا أنه حجة الإسلام دون منافس حقيقي، ووصف الغزالي من طرف بعض أساتذته بأنه بحر مغرق (أو مغدق)، وبأنه مجدد القرن الخامس للهجرة. كما اشترط بعض المغالين قراءة "الإحياء" من أجل أن يكون المرء من "الأحياء". وبلغت قمة الإفراط في قول الإمام النووي ما يلي: كاد الإحياء أن يكون قرآنا ثانيا. فلو قمنا بمقارنة الأقوال المأثورة عن الغزالي من طرف المسلمين من جهة، وأقوال المستشرقين وأحكامهم لوجدنا تشابها وتطابقا واضحا، لكن مع فرق أساس وهو أن تقرير المستشرقين لم يكن نابع من تمجيد إيديولوجي لتراث ليس بتراثهم بقدر ما يعبر عن اعتراف بفكر كنتيجة بحث، وليس اعترافا سابقا لأي بحث.

قوبلت هذه الأقوال المادحة بطرح مغاير إلى حد التناقض، إذ تعرض فكر الغزالي إلى نقد وتجريح وصل لحد إحراق كتبه. فالمدرسة التيمية السلفية عارضته بشدة، وتم الحكم بالموت على" الإحياء" من طرف تلميذه المغربـي الملقب بأمغار: محمد بن تومرت. وحملة ابن رشد من أشهر الحملات التي عملت على تقويض فكر الغزالي في المغرب كذلك. وفي الأزمنة المعاصرة يعتبر كتاب "الأخلاق عند الغزالي" نموذجا للدراسة النقدية لفلسفته من طرف الدكتور زكي مبارك. وهناك من المستشرقين من جعل فكر الغزالي الصوفي امتدادا للتصوف النصراني ليس إلا.[15]

كما صنف صاحب الكتاب الموسوعي في الفلسفة الإسلامية الدكتور "حسين مروة" الغزالي ضمن الاتجاه المعادي للمنطق الأرسطي والفلسفة عموما، واعتبره القائد الأكبر للحملة الإرهابية التي امتدت في كل الأمكنة وانتشرت لمدة زمنية طويلة جدا أكثر مما نعتقد بمعنى أن فكر الغزالي امتد إلى أيامنا من خلال فعل أفكاره في كثير من تصرفات الكثير من التيارات المعاصرة. وأثّرت على مدى أجيال كثيرة، فإحراق كتب المناطقة والفلاسفة كان نتيجة عملية وسلوكية لأفكار هذا التيار المتعصب، ولم تنقص حدة هذه الموجة المعادية للعقل إلا مع النشاط الرشدي الدفاعي عن العقل والمنطق والسببية الطبيعية. إلا أن فيلسوف قرطبة رغم عمله الشجاع إلا أنه كان ضحية من ضحايا "ذهنية التحريم" التي امتدت من المشرق الذي شكله الغزالي إلى المغرب الإسلامي. ولم يدم التنوير الرشدي إلا برهة من الزمن، حيث عاودت موجة العناد على يد فقهاء أمثال الشهرزوري (ابن الصلاح الذي تمنطق جدا من أجل منع المنطق) في القرن السابع للهجرة، وابن تيمية في القرن الثامن. حيث تم تحريم المنطق على يد المفكر الأول، وتكفير الفلاسفة على يد الثاني.[16]

ما يمكن أن نقوله ونحن خارجون من هذا الجدل - جدل الجَلد والتمجيد أو جدل الحب والحرب - حول قيمة الغزالي شخصا وفكرا هو أن: التأويل المستقطب لأي فكر عبر التاريخ إن دل على شيء، إنما يدل على مدى الأصالة الحقيقية، فكل النصوص الأصلية حدث لها ما حدث لنصوص الغزالي وفلسفته. أي أنها خضعت لتفسيرات متعددة ومتناقضة، نظرا لما فيها من فائض معنى، وما تحتويه من إمكانيات لا يمكن استنفاذها من الشرح والتوظيف والتأويل والاستغلال. فالنص والفكر الحي لا يمكن إلا أن يكونا مرتعا لكل أصناف التفكير والتنظير مهما اختلفت وتناقضت، وهذه الصفة تصدق سواء على النصوص الدينية أو الفلسفية أو السياسية... كل هذا يدفعنا للعمل على كشف نقاط الأصالة في فكر الغزالي وخاصة منهاجه.

إن تجربة الغزالي كما يرويها هو من أشهر التجارب الفلسفية والاعترافات الفكرية المسجلة في تاريخ الفلسفة سواء عند الغرب أو العرب. وكل دارس للفلسفة الإسلامية يستوقفه هذا الاعتراف المميز، والذي يعبر حقا عن تطور روحي وفكري أصيل عنده. وأصبح ذكر هذه التجربة الروحية من أدبيات التأريخ لهذه الشخصية الفذة.[17]

Pages