كتاب " أسلمة المنطق " ، تأليف عبد الكريم عنيات ، والذي صدر عن منشورات ضفاف
You are here
قراءة كتاب أسلمة المنطق
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
منهج الغزالي: مسح الموروث والانطلاق
من العقل المحض المؤقت.
إن مكانة الغزالي في مجمل تاريخ الفلسفة الإسلامية، ليست موضوعا للجدل أو التشكيك. وما القادحين والمنتقدين له إلا تمظهرا سلبيا لأهميته ومكانته. فالاعتراف بمستوى فكر الغزالي المميز كان من المستشرقين قبل غيرهم من أهل الحضارة الإسلامية ذاتها، رغم منطلقاتهم الصارمة وغير الموضوعية في بعض الحالات تجاه الحضارات الشرقية عموما والإسلامية تحديدا. فنجد مثلا "دي بور" ورغم أنه ينتقص من روح الابتكار والنقد والتمحيص عند العرب، ويجعلهم حبيسي أخطاء الترجمة والنقل، مما جعلهم متقيدين مطلقا بأفق الفكر الأرسطي المسيطر. إلا أنه في حالة الغزالي نجده يقول أنه من الأبطال الخالدين في الإسلام، وأن القيمة الفلسفية من المسائل المثبتة في كتابه "تهافت الفلاسفة" من خلال نظرته الريبية الهجومية على المذاهب الفلسفية المستمدة من اليونان. وكانت دراساته - يقول دي بور - تتسم في الكثير من الجوانب بالموضوعية والأمانة، كما أنه كان واعيا بالمسألة الدينية التي أرقته مطولا بالنظر إلى المسألة الفلسفية.[10] وهذا ما يعكس صدق الغزالي وابتعاده عن التواري المعرفي مثل ما عمد الكثير من مفكري الإسلام الذين لم يظهروا مدى جدية مشكلة الفلسفة والدين أو العقل والنقل، بل اختاروا الطرق السهلة من خلال إثبات التوافق المطلق بينهما. لكن في حالة الغزالي فقد طرح دون أي خوف مسألة الاضطراب الحاصل بين العقل الفلسفي المتحرر كلية والعقل الديني الذي يحتكم لضوابط معلومة.
كما نجد مستشرقا آخر وهو كوربان، ومع إسقاطه كل الأحكام المبالغة والمفخمة لشخص الغزالي، فإنه يحتفظ بصفات مثل الألمعية والنبوغ مقارنة بباقي الفلاسفة المسلمين، ويعتبره المتعمق في دراسة الفلسفة ويظهر ذلك في "مقاصد الفلاسفة" - ولنا عودة لهذا الكتاب، خاصة القسم الأول المخصص للمنطقيات وهو موضوع اهتمامنا - و"تهافت الفلاسفة". والأكيد أن هذا الانفراد العجيب في فكر الغزالي قد لاحظه كوربان في: ((تلك الثقة التي يوليها للمنطق والجدل العقلي في سبيل الوصول إلى غاية محاجاته، في حين أنه هو نفسه لا يؤمن بجدوى المنطق والعقل لبلوغ الحقيقة)).[11] وهذا القول في حقيقته يدعم ويقوي المشكلة المطروحة في بداية ومقدمة هذا الكتاب المتمثلة في صعوبة التوفيق بين مقولة الغزالي المدرسية التي تثبت الأهمية البالغة للمنطق في علم كل مفكر من جهة، وإنكاره لأي أهمية للاستدلال في بلوغ الحقيقة الدينية من خلال نهج التصوف. وكأن الغزالي قد وقع في المحظور العقلي عندما وضع وحمل محمولين متناقضين على نفس الحامل. ويواصل المستشرق كوربان قائلا: ((وهنا، بشكل خاص ينفجر تناقض الغزالي، فهو بالرغم من اقتناعه بعدم أهلية العقل وكفاءته لبلوغ اليقين بحد ذاته، على الأقل، على يقين من تقويض يقين الفلاسفة وذلك عن طريق الجدل العقلي نفسه)). وكأن صاحب المقولة يود أن يشير بوضوح إلى أن الغزالي قد سقط في المفارقة الفلسفية التقليدية التي بلور معالمها أرسطو، في كتابه "دعوة إلى الفلسفة"عندما ألمح ولو بصورة ضمنية إلى أنه: إما أن التفلسف ضروري ولابد عندئذ من التفلسف، وإما أنه غير ضروري، ولابد أيضا في هذه الحالة من التفلسف لإثبات عدم ضرورته وفي الحالتين، أي ضرورتها أو عدم ضرورتها، ينبغي التفلسف. لأن فعل الفلسفة في ذاته ينطوي على طرفين متنافرين ظاهريا وهما السؤال عن ضرورة الفلسفة من جهة، وهذا التشكك يجعلنا نسير في طريقها من أجل إثبات ذلك.[12]
لكن الحقيقة أن الغزالي لم يقع في هذا التناقض الذي يبدوا أنه وقع فيه. وتبرير ذلك أن كل مفكر متميز ومجدد يجد نفسه في تمفصلات فكرية غير تقليدية. إذ لا ينتمي بسهولة ووضوح إلى تيار أو اتجاه ظاهر المعالم، بل على العكس فإنه يتموقع في حيز فكري "ضبابـي" أو "رمادي" من خلال محاولته الجمع بين مسائل تظهر لأصحاب الفكر التقليدي بأنها مستحيلة التجميع. وهنا بالضبط نفهم انـزعاج ابن رشد من موضوع تصنيف الغزالي. وهذه المواقف الضبابية غير الاعتيادية قد تكررت مع أكبر الفلاسفة تميزا في تاريخ الفكر الغربـي مثل باسكال ونيتشه وياسبرز...