كتاب " ثقافة مجتمع الشبكة " ، تأليف د. محمد أحمد صالح ، والذي صدر عن دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
قراءة كتاب ثقافة مجتمع الشبكة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

ثقافة مجتمع الشبكة
والمستحدثات الإبداعية لها حدود للنمو والتطور، فالمستحدثات الجذرية الراديكالية يأخذ تطورها على مرّ الزمن شكل منحنٍ على شكل حرف S ، حيث يصل تطور تلك التكنولوجيات إلى حدٍّ معين. وهناك طرق كثيرة لقياس التطور في أداء تلك التكنولوجيات مثل قياس كفاءة وتكلفة آلة أو جهاز معين، أو قياس كفاءة وقود السيارة مثلاً، وأيضاً ممكن قياس مدى راحة واستفادة المستعمل لتلك التكنولوجيا المستحدثة، ومن أهم الخصائص الرئيسية لهذا المنحني أنه يمرّ بثلاث مراحل: المرحلة المبكرة، وفيها يوصف أداء المستحدث بالضعف في أول الأمر، وتفشل عملية استبداله بشكل دائم بدلاً عن التقنيات القائمة، وهي تمثل مرحلة هامة ومغزوية في المنحني حيث تحل فيها ببطء جميع مشاكل التقنية المستحدثة، يتحسن أداؤها تدريجياً وببطء شديد، وفي تلك المرحلة يستخف عادة من تلك التقنيات، ويقلل من شأنها من قبل التقنيات المنافسة! وفي المرحلة المتوسطة للمنحني يتم فيها حل مشاكل التقنية الجديدة، وتبدأ الزبائن في تقبل إنجازات تلك التقنية بشكل نهائي، وتبدأ أيضاً في الانطلاق بشكل واسع بمساعدة خصائص منحني التعلم. وفي المرحلة الثالثة من المنحني، يصل المستحدث الإبداعي إلى حده الأعلى من التطور والانتشار، وتستنزف في تلك المرحلة كل دروب تحسين الأداء، ولا يمكن إضافة أي تحسينات ممكنة!
وإذا ركزنا ببعض التفصيل على تلك المراحل، سوف نلاحظ في المرحلة المبكرة العديد من التقنيات المستحدثة المتنافسة، والتي تسلك طرقاً صعبة ومختلفة، وهي في حيرة وعدم استقرار فيمن سيربح على المدى الطويل، ففي المراحل المبكرة في تطوير صناعة السيارات كان هناك 75 منتجاً جديداً من السيارات في الولايات المتحدة الأمريكية، ما بين سيارات بخارية وسيارات كهربائية! وكان التقدم بطيئاً في إيجاد حلول مميزة لمشاكل تلك التقنيات المستحدثة، وكثرت شكوك المنتجين المؤسسين، على سبيل المثال: رفضُ المنتجين الأميركيين للإطار الخارجي لعجلة السيارات طية داخلية من نوع راديال، حتى اقتحمت تلك الطية السوق بواسطة صُنّاع السيارات أنفسهم! فالتكنولوجيات الجذرية تأتي كثيراً من خارج الإطار العام السائد، وغالباً من شركات تجارية صغيرة! فـ 70% من المستحدثات الإبداعية الجذرية تأتي من خارج إطار الصناعة.
والمرحلة المتوسطة في المنحني تتميز بعدة خصائص منها: فترة النمو السريع للتقنية الجديدة، وفيها تحل أغلب مشاكلها! وفي هذه الفترة تظهر التقنية في تصميم مهيمن على السوق، ويعتبر أكثر تصميمات تلك التقنية نجاحاً، ويستحوذ غالباً على حصة الأسهم، ويختاره السوق كأفضل تقنيات معروضة، فعندما دخلت شركة IBM سوق أجهزة الحاسب الشخصية PC أصبح تصميمها هو المهيمن على السوق، فهم نجحوا في تجميع أفضل العناصر، من شاشة تليفزيونية، ومحرك قياسي للأقراص، ورقاقة أنتيل في اللوحة الأم للجهاز، ولوحة مفاتيح مناسبة، وماوس مايكروسوفت، ونظام تشغيل دوس dos ، كان وقتها يمثل ثورة ضخمة، وهندسة معمارية للبرامج حرصوا أن تكون مفتوحة تتقبل كل الإبداعات والإضافات، كلها عوامل جعلت تصميمهم يسيطر على السوق! خاصة بعد أن نجحت IBM في جلب أصول مالية محترمة متعددة إلى منضدة السوق، وأمثلة أخرى مثل نجاح نظام تشغيل النوافذ WINDOWS ، والجسم الفولاذي الخارجي للسيارة، والطائرة دي سي 3 DC 3 ، كلها تصميمات هيمنت على السوق. وبعد أن يظهر هذا التصميم المهيمن تتجه كل المنافسات نحو تحسين وتطوير هذا التصميم المهيمن، وينخفض عدد اللاعبين في السوق في أغلب الأحوال بشكل مثير، فمثلاً، ظهر في عام 1923 الجسم المعلق الفولاذي للسيارات، وكان هناك في تلك السنة حوالي 75 مجهزاً لتلك التقنية، في السنتين التاليتين هبط عددهم بنسبة الثلث، والموضوع نفسه حدث في صناعة الحاسبات، وشاهد اليوم ما يحدث في شركات التقنية العالية الدقة، حيث اتهمت مايكروسوفت بأنها قضت على الكثير من المنافسين لها!
وفي المرحلة الأخيرة من المنحني تصبح التقنيات الجديدة في حالة تمام النضج، حيث اكتشفت كل طرق تحسينها وتطويرها، وتصل التقنية إلى ذروة حدودها، وتتباطأ التحسينات فيها لدرجة الزحف. ومن أهم خصائص تلك المرحلة أن المنتجات تصبح سلعة تتنافس مع سعرها منتجات أخرى، حيث ينتقل وجه المنافسة من أداء التقنية إلى سعرها! وهنا تصبح المنتجات قياسية، وتصبح الكلفة عاملاً محدداً في شراء المنتج وأساساً لقاعدة التنافس. وتقول الدراسات: إن 80% من قرار المشترين على السعر! ويطبق عليها هنا قانون الغلة المتناقصة، حيث لا يمكن للبحث العلمي وعمليات تنمية المستحدث أن تحسن أداءه في تلك المرحلة، فهو قد وصل إلى حدوده الطبيعية، وتظهر البشائر الأولى لمنافس جديد، وهذا المستحدث الجديد المنافس للتقنية السائدة في السوق غالباً ما يكون مادة للسخرية من قبل اللاعبين الرئيسيين للتقنية الحالية، ويعتقدون أن أداءها أقل كثيراً من أداء تقنيتهم الحالية.
والمنتج مرتبط بعملية الإبداع والابتكار، لكن ليس كل منتج جديد عليه أن يتبع النمط نفسه في عملية الإبداع، ولكنه يزود بصيرة المنافسة في الصناعة، ويضيف لاستراتيجيات العمل، فعندما تظهر تقنية جديدة، تصاحبها كمية كبيرة من محاولات تجريب المنتجات الجديدة الناتجة عن تلك التقنية، ففي الفترة المبكرة في صناعة السيارات، كانت هناك سيارات بخار، وسيارات كهربائية، وكل أنواع العروض، في تلك المرحلة لا يعير أحد اهتماماً إذا كان المنتج الجديد مجنوناً أو منخفض الإبداع. وبينما يقرر السوق أي المنتجات تفضل، نجد معدلات إبداع المنتج تتباطأ، وتظهر تصميمات قياسية، وواحد من تلك التصميمات يهيمن على السوق، وعند هذه النقطة تصبح عملية التطوير مهمة للغاية، وتصبح الكلفة وحجم التقنية أكثر مرئية، كما حدث في ظهور نموذج السيارة فورد ذاتية الحركة، فهناك موجات من التغيير التكنولوجي تتم في عملية ثابتة تتسم بالتعاقب والتتالي المستمر في السوق، وتميل موجات انتشار المستحدثات إلى المرور بفترات استقرار وتعزيز. وعندما تكتسح تقنية جذرية الصناعة، فهي تلغي واحداً أو أكثر من التقنيات الحالية! وتصبح مشكلة استراتيجيات الشركات وقتها هو كيفية الانتقال إلى التقنية الجديدة، وتكون وقتها أهم أسباب فشل الشركات هو عدم قدرتها على الانتقال إلى التقنية الجديدة. وتبدأ كل تقنية جديدة بأداء دون المستوى، وتتحسن معدلات الأداء تدريجياً وتتسارع في النهاية لتصل معدلات الأداء إلى التفوق في النهاية. ويأخذ دورته ويستبدل في النهاية بالتقنية الموجودة وهكذا. عموماً أداء أي تقنية جديدة يتحسن تدريجياً مع المستعملين. وأحياناً قدوم تقنية تكنولوجية جديدة يحفز وينشط الاستجابات المنافسة! وتبذل جهود جبارة، يقودها اليأس من عدم القدرة على مواجهة التقنية الجديدة، فتتمكن التقنية الحالية من تحسين أدائها، وتتجاوز حدودها الطبيعية في تحسين الأداء، على سبيل المثال، في الخمسين سنة بعد تقديم السفن البخارية، أجري على المراكب الشراعية تحسينات وتطوير أكثر بما حدث لها في الـ 300 سنة السابقة لظهور السفينة البخارية! لكن هذه الجهود منكوبة ومدانة دائماً! لأن التقنية الجديدة عادة تملك طاقات وإمكانيات لتحسين الأداء أكثر بكثير من التقنية السائدة، وقد تنجح هذه الجهود الجبارة في تأجيل انقراض واختفاء التقنية الحالية لفترة ما، ولكنها تفشل في النهاية، حيث ينتصر التغيير! وأحداث مشابهة حدثت في مشروع الجينوم الممول من الحكومات أمام منافسة مشروع الجينات البشرية الممول من القطاع الخاص.
وفي كل تلك الموجات يظهر الدور المتغير للمعرفة المتراكمة، الذي يمكن أن نفهمه بشكل واضح من قبل حالة الآلة البخارية والترنزستور. فالآلة البخارية طوّرت بسلسلة اختبارات تجريبية قامت على التجربة والخطأ، فكان جيمس وات الفرد الذي وضع اللمسات الأخيرة في الآلة البخارية وجعلها ناجحة بشكل تجاري، فقد كان هناك العديد من الآخرين الذين ساهموا قبله منذ سنوات. فنظرية عمل الآلات البخارية جاءت بعد العديد من السنوات، كان فيها التطوير قائماً على التجارب تماماً. وهناك أيضاً قصة تطوير الترنزستور التي حلت بشكل رائع من قبل ريتشارد نيلسن، وهي قصة مختلفة، فقد اخترع الترنزستور في مختبرات هاتف بيل في عام 1946. ومثل الآلة البخارية، كان تطوير الترانزستور انطلق من قاعدة المعرفة التي كانت قد طوّرت من قبل من خلال عدّة أجيال من العلماء في ذلك المختبر.
وأي مستحدث يستلزم وجود نظم تساعد على نجاحه، وهناك العديد من اللاعبين الذين يشتركون في نجاح أي تقنية مستحدثة مفردة، واللاعبون هم المخترع، وشخص يمول عملية تطوير المستحدث، قد يكون شركة، أو رأسمال مغامر، وهناك أيضاً المزودون والمجهزون لتلك التقنية للسوق، والزبائن المستعملون لتلك التقنية، وهناك أيضاً المنظمون، والمحامون، ووكلاء براءات الاختراع، وأفراد مدربون جيداً على استعمالها وصيانتها، ومحاسبون، وبورصة سوق الأوراق المالية، ورجال الأعمال أو المبتكرون الأوائل الذين هم أول من يتبنى التقنية الجديدة للسوق، إلخ كلهم لاعبون في عملية نجاح أو عرقلة المستحدث. مثال واحد في دور الحكومة في عرقلة المستحدث، إنه حالة النزاع بين الحكومة الأمريكية مع اليابان ضد ظاهرة إغراق السوق بالحواسب العملاقة! حيث اشتكت كراي الأمريكية من منعها من بيع حواسبها في اليابان، لأن الحكومة لم ترغب في أن تنجح شركة NEC اليابانية من بيع حواسيبها العملاقة المتفوقة في الولايات المتحدة الأمريكية، وظهرت النتيجة في دراسة للبيت الأبيض بأن علماء المناخ ومتوقعي الطقس الأمريكيين كانوا سيئين جداً وسببوا أضراراً مقارنةً بنظرائهم الأوربيين لمدة 3-5 سنوات، نتيجة عدم استطاعة الأمريكان الوصول والدخول على حواسب NEC اليابانية المتفوقة.