من المفترض أنني مت، وأن آخر أنفاسي قد صعد إلى السماء، وأنني لن أستطيع فتح عيني مرة أخرى لرؤية هذا العالم، ولا أعرف أيضاً إن كنت لا أزال أتنفس بانتظام ونبضات قلبي تتسارع في مهامها اليومية.
قراءة كتاب الحمامة بعباءتها السوداء
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

الحمامة بعباءتها السوداء
الصفحة رقم: 3
بقيت هي في حالة الصمت، وأنا في حالة شرود، كلانا كان في جوقة الأحلام يرقص، وكلانا أنصت لغناء لم نعرف ماهيته..!! جارتي مشغولة برؤيتها كما تدعي، وأنا مشغولة بأغنية تتوارد على خاطري الآن، والسماء مشغولة بالأذان الصاعد إليها، كنا ندور في القطع المكافئ الناقص، وثمة شيء يقترب منا حد التلامس كمشاكسة الضوء حين يلامسنا وينعكس دون أن نستطيع دعكه بأصابعنا المضيئة..! هكذا استدارت الحكاية آخذة في الكبر نحو الصوت المقبل من الشرق، الشرق الذي سنسافر إليه شئنا أم أبينا، الشرق بهيئة حكاياته، بشمسه التي تسيل ذهباً كل صباح من دون أن نرى وجوهنا في لمعة الذهب.. الشرق الذي يغمض جفنيه عن الكلام والساعة بين عينيه تدور وتدور، الشرق الذي منحنا ما لم نستطع أن نؤديه بصدق...!
الشرق اللغة المنسية بين دفاتر الريح...، شرقنا هذا الذي لن نلملم شعثنا لرؤيته دون أي غشاوة ضبابية تغلف بصائرنا...، أي شرق هذا الذي أبحث عنه ولم أزل غائبة عن وعيه؟
وعلى بوابة الشرق انتصبت ليلة أخيرة قبل أن تغلق الحياة صنبورها وتكف عن التقطير، الشرق هو منازل القبور في قرية ولدت فيها ولم تحتمل حمل جنوني وتداعي طوب الحياة الواحدة تلو الأخرى. الشرق كوة آخذة في الكبر مرت عليها الريح قلقة، وكأنها على بينة من أمر ما. ما إن ترتفع قليلاً فوق الأرض، حتى تعود للسكون، باتت تنهيدته نار تلفح، تعبر بسخاء مطلق من خلال الكوة التي أحدثتها أصابعه، يرنو إلى السماء قليلاً، ويعاود الحفر طويلاً...
ربما تبدو الحياة الآن لمن يواجهونها كأنها وجه طفلة صاف في عامها...، والأشجار تلتف بكبرياء حين عناق الأوراق، حبات الرمال تصطف كطوابير الصباح...، كل الأشياء تسير في حلقة منتظمة. الساعة تدق (الثانية عشرة بعد منتصف الليل)، ليس ثمة من حارس في المقبرة، والأهم ليس هناك من نار تحرس القبر، القبور يضج بها الصمت. أمي حملت بي (زهواً) أي دون أن تفصل بعد ولادة أختي التي تكبرني ببضعة أشهر، بين ولادتها والحمل بي شهران، تقول الجدة أن موتي سيكون مؤلماً، هي تتنبأ بذلك، تيار الدم لم يمر بأمي قبل أن تحمل بي، تقول أن (النباش) سينبش قبري ويحملني معه، وعليهم أن يشعلوا النار على قبري ثلاث ليالٍ متتالية، حتى لا يحمل النباش جثتي، فكرت ذات مرة بكلامها، وطافت الضحكات حول فمي...!
لست على علم من كوني الآن ميتة -بعد بضعة أيام من كلام الجارة- ولست متأكدة من كونهم
حملوني بعد أن صلوا علي، ووضعوني في القبر وأهالوا الرمل على وعاء رأسي الذي يحتوي ملايين الأفكار، أغلبها ذهب نحو الاندثار ونام نومته الأبدية قبل أن تلحقه الخلايا والأنسجة التي تتمدد في جسد خاوٍ من الحراك، ساكن كماء محاصر بجيوش من الغبار.
هل تحقق كلام جدتي المسطر، ما هذا الذي ينبش في القبر؟ هل هي أظافر طويلة تمتد نحوي، تحاول انتشالي، ها أنا ثانية خارج القبر...! جميل أن تغادر قبرك بعد أن دخلته، لست أغادره كلياً-بعضي لا يزال هناك– ما هذا البعض؟ بل نصفي لست متأكدة من ما بقي نصفي أم بعضي، ثلاثة أيام مدة لا بأس بها، أن تعود للحياة كطيف غير مرئي بينما مادة الطين في طريقها للتحلل! أمر غاية في الأهمية...
أتجول في هذه الحياة دون أن يشعر بي أحد، سأشاهدهم جميعاً، أنصت إليهم وهم يتحدثون، يفكرون، وحين ينامون. قد أغزوا منامهم بأحلام تخبرهم عني، وعن حالي كروح طائرة دون طين مثقل، هكذا سوف أغدو!
ما إن غادرت القبر متجهة صوب الحياة كعودة أخيرة، التقيت بأرواح أخرى هائمة، الأرواح تعود مجدداً للحياة، ما الداعي لذلك؟ هل هو حب الحياة؟ أم رأفة بمن يحبون، وتأمل لساعات الوداع الأخيرة؟ وهل هناك حب بعد أن ترحل الأرواح مع الموت، وتطمر الأجساد تحت الرمال؟ أم هي الأسرار الدفينة التي تركوها دونما إخبار أحد! لماذا يعود الموتى مجدداً للحياة بعد أن انقضت مدة بقائهم فيها؟