رواية "حورية الماء وبناتها"، هذا العمل هو الكتاب الأربعون في سلسلة الأعمال الشعرية والروائية التي أصدرها سليم بركات طيلة حياته الإبداعية التي بدأها قبل أكثر من أربعين عاماً ومازال مستمراً في هذا العطاء. رواية ‘حورية الماء وبناتها’، ‘رحلة في سفينة سياحية.
قراءة كتاب حورية الماء وبناتها
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 5
(Halarachnion ligatum)
ثمانية عشر نورساً عَلَوْنَ السلسلة الحديد، المشدودة بين عمودين من أعمدة رصيف الميناء الحديدية· لم يكن واضحاً ما الذي تتأملَّهُ طيورُ الماء تلك، بأعناقها المرتدَّة قليلاً، في كسلٍ أبيض، إلى أطواق معاطفها الريش الأبيض· خجلٌ رماديٌّ يعرو بياضَ الريش على الأجنحة، وهي تتأمَّل ماليس أكيداً تخمينُه للناظر إليها من رصيف الميناء· ربما تتبع بأبصارها الإوزَّ غاطساً برؤوسه في الماء حتى البطون، مرفوعَ الأذيالِ أعلى أشرعةً مضمومةً· ربما تتبع بأبصارها الصفَّ الطويلَ، البشريَّ، في الجهة الجانبية، خارجاً من المبنى الإسمنت، المستطيل، ذي السقف القرميد الأسود، متَّجهاً، تحت السرادق المنبسط السقف على أسطواناتٍ خشبٍ عالية، صوبَ الجسر الواصل بين الرصيف والسفينة الراسية في ثقلٍ كلون حديد هيكلها بلا طلاءٍ·
صفٌّ مثْنى مثنى، رجال ونساء، تقدَّم تحت السرادق المنصوب طويلاً، من باب مبنى انتظار المسافرين موعدَ إبحار السفن، حتى جسر الميناء، بسقفٍ قرميدٍ أيضاً كسقف المبنى ذي الطبقة الواحدة، يقي المسافريْنَ من مطرٍ، أو ثلجٍ، أو شمس· كانوا يسحبون إلى جوارهم حقائبَ على عِجَالٍ بأيدٍ، ويمسكون بأيد أخرى تروسَهم المعدن·
مودِّعو المسافرين ـ الحَشدُ المعتدل عدداً، لوَّحوا من جوار سيَّاراتهم المتوقفة في فسحة دائرية، متفرعة من الشارع الكبير الواصل بين الميناء وعُمران المدينة، وداعاً أمانيَ بالحظوظ السَّعْدِ للرحلة· وكان المودِّعون أولئك، جميعاً، نساءً ورجالاً، وأطفالاً أيضاً، يحملونَ تروساً متفاوتة الحجوم، في أيديهم، مرفوعةً قليلاً، أو يتَّكئون على أحفَّتها العليا وقد أسندوا أحفَّتها السفلى على حجرِ موقف السيارات·
كلهم يحملون تِرَسةً: المودِّعون قريباً من رصيف الميناء، والمسافرون، والعابرون طِوارَ الشارع مشيًا، صغاراً وكباراً؛ والمستقلون دراجاتهم الهوائية كلٌّ يمسك مِقوَدها بيدٍ، ويحمل ترساً بالأخرى· الأطفال لهم تروسهم الصغيرة أيضاً· تروسٌ معدنٌ، دائرية، ومستطيلة، ومثلثة، ظاهرةُ الثقل من انحناء الأكتاف في حملها، بنقوشٍ شتىَّ، نافرةٍ أو غائرة، ورسومٍ كالرغبات تدحرجت من أعماقهم إلى صفيحها· حتى الستةُ المجذِّفون، في قارب السباق النَّحيل الرشيق، الطويل، عابراً من وراء السفينة المتأهبة لرحلتها، كانوا بأيدٍ على المجاذيف تخفق في الماء اندفاعاً، وأيدٍ على تروسهم· نورسان جابا، تحليقاً منخفضاً، مدارَ الهواء فوق القارب، ثم ارتفعا ليحطَّا على اسطوانة عالية كالمدخنة أعلى السفينة ذات الطبقات الثلاث، الحديد بلا طلاءٍ· بطَّتان، مطوَّقتا العنقين حلقاتٍ بنِّيةٍ، تتبَّعتا، على نحوٍ أخرقَ، صفَّ المسافرين مُذْ بلغوا جسر السفينة· جاورتا فتاةً صغيرة تمشي وحدها، مُفردةً من دون سائر الصاعدين الجسرَ مثْنى مثنى، في آخر صفِّهم، بعيدةً عنهم خطواتٍ، بحقيبة صغيرة، سوداء، على ظهرها، وترسٍ دَرَقةٍ ليس معدناً، بل جلدٌ سميك، جاسئ، دائريٌّ، عليه وجهُ ثورٍ نافرٌ بحلقةٍ نحاسٍ في خَطْمه· كانت تترنَّم بصوتٍ خفيضٍ من باطن حنجرتها، مغلقةَ الفمِ، ترنُّماً متصلاً· فتاة صغيرة، في الثالثة عشرة من عمرها، حمراء الشعر، ذات وجه مستدير يتوسطه أنفٌ أفطسُ قليلاً، وعينان عسليتان على صُفرة؛ ممتلئة الجسم بلا سُمنة، في بنطال أسود قطنيٍّ، ضيق، فوقه ثوب أصفر قطني، سميكُ النَّسْج، منسدل حتى منتصفيِّ الفخذين، كالبُرنس بقلنسوة منحسرة وراء رقبتها· طقطقت بأصابع يدها اليمنى للبطتين تدعوهما إلى مرافقتها صعوداً على الجسر إلى السفينة· لكنَّ البطتين انعطفتا، إذْ بلغت الفتاةُ أولَ الجسر· نزلتا بضع درجات حجر تصل الرصيف بالبحر، ثم انزلقتا بصدريهما على الماء الخامل، الساكن، المطمئن إلى وعد خيالهِ بأبديَّةٍ ماءٍ·