كتاب أو رواية (حياة اسبينوزا - من الطائفة إلى الدولة)؛ يقول عنه الكاتب د.
قراءة كتاب حياة اسبينوزا - من الطائفة إلى الدولة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
حياة اسبينوزا - من الطائفة إلى الدولة
الصفحة رقم: 1
تقديم
إن فلسفة باروخ سبينوزا عبارة عن مشروع معرفي، يسعى إلى تقديم قراءة شاملة للوجود، قراءة تنطلق من إيمان راسخ بقدرة العقل الإنساني على فهم نظام الطبيعة الشامل. لكن هذا الطموح المعرفي العقلاني أثار من حول الفيلسوف جدلاً واسعاً، دفع بالعديد من قرائه إلى اتهامه بتعليم الإلحاد، فيما اعتبره آخرون، ويا للمفارقة! فيلسوفاً منتشياً بحب الله. وتكاد تكون النقطة التي لا يختلف حولها الدارسون، على مدى تعاقب الأزمنة، هي سمة العمق والتعقيد التي تميز طروحات سبينوزا ورؤيته للعالم، التي ما تزال تثير الأسئلة وتعدد التأويلات. وهي السمة نفسها التي دفعت بأقرب أصدقائه ومحاوريه، أثناء حياته، إلى التعبير عن دقة موضوعاته، فكانوا يلحون عليه لتقديم المزيد من الإيضاحات؛ لتسليط الضوء على آرائه ونظرياته الفلسفية المستجدة. وفي تقديري الشخصي، فإن الأسباب التي جعلت أعمال هذا الفيلسوف العظيم تتسم بالغموض وتستعصي على الفهم تعود إلى اعتبارات عدة نذكر منها على سبيل المثال ما يلي: أولاً: اختياره للمنهج الهندسي في عرض أفكاره ومعالجة إشكالاته الفلسفية، ثانياً: انطلاق قرائه من أحكام عقائدية وإيديولوجية مسبقة تعوق إدراكهم لأفكاره في سياقها وأفقها المعرفي الجديد، ثالثاً: اقتصار معاصريه على نصوص محددة، مما جعل قراءتهم تكون مجزأة ولا تلم بمبادىء ومقاصدها فلسفته في نسقها وشموليتها، رابعاً: اختلاف السياقات التي ارتبطت بها فلسفته من سياق ديني واسكولائي ودكارتي وسياسي. أما اليوم، فتبدو المسافة النقدية مع مشروع سبينوزا الفلسفي ملائمة، لإعطاء فكرة أوضح عن الفيلسوف وحجم إسهامه في تاريخ الفكر الفلسفي الإنساني. وما هذه السيرة التي أقدمها بين يدي القارىء العربي سوى محاولة لرسم صورة حية للفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا، أتتبع فيها أطوار مساره الفلسفي فيعلاقتها مع حياته الشخصية، وذلك على قاعدة أن سيرة حياة أي فليسوف هي بمثابة مفتاح لولوج عالمه واستقبال أفكاره ونظرياته. ولعل القارىء يتبين في هذه السيرة مصدر نشوء العديد من أفكار سبينوزا، من رحم تفاعله وسجالاته مع رجالات عصره، من علماء وفلاسفة أمثال كريستيان هيجنز وروبرت بويل وليبنز.
ابتدأت فكرة الكتابة عن سبينوزا منذ سنوات إقامتي بمدينة لاهاي (1995-2001)، حيث اكتشفت هذا الفيلسوف الهولندي الكبير، الذي حول مسار الفكر الفلسفي الإنساني برمته، مما جعل فيلسوفاً مثل هيغل يقول عنه إما أن يكون المرء سبينوزيا أو لا يكون فيلسوفاً على الإطلاق. وما ساعدني على الاقتراب من عالم الفلسفة السبينوزية هو انخراطي بخزانة مدينة ليدن العريقة، التي مكنتني من الاطلاع على ذخائر من المخطوطات والمراجع من مختلف اللغات. وكنت في كل مرحلة من مراحل اكتشافي لعالم سبينوزا أزداد دهشة وفضولاً لبذل المزيد من الجهد لفهم مقاصده، التي لم تكن تخلو من تعقيد ودقة اعترف بها حتى المتخصصون في فلسفته. وتدريجياً وجدتني أقرأ أعماله الكاملة ورسائله وسير حياته المتاحة، متمحصاً ومدققاً ومقارنا. وكم كانت دهشتي أكبر وأنا أكتشف المفارقات الكبرى والمواقف المتضاربة التي أثارتها حياة هذه الفيلسوف وأفكاره، مما جعله أقرب إلى الأسطورة. ولم أجد بداً من التخلي عن فصول كاملة ألفتها عن فلسفته، والتركيز على سيرة حياته في محاولة مني لتقديم، لربما بشكل غير مسبوق في العربية، صورة حية للفيلسوف أتابع فيها أطوار مساره الفكري والفلسفي، في علاقته المتوترة والمتشعبة مع سيرة حياته الشخصية والعائلية، ومدى تفاعله مع تيار عصره، وتجاذبات المحيط الاجتماعي والثقافي والسياسي لبلده هولندا على وجه الخصوص، وأوروبا بوجه عام. ووفقاً لهذا الاختيار، دأبنا على رسم، بأكبر دقة ممكنة، لأهم المحطات التي أثرت في اختيارات الفيلسوف ومواقفه من حياة الطائفة التي احتضنته فانشق عنها، ومن سياسة بلده ومنظومتها الفكرية، التي ساهم في تطويرها، من خلال التنظير الفلسفي والانخراط في حركات المجتمع المدني الطلائعي، والمشاركة في الجدل العام الذي نشطت فيه العديد من الجمعيات المدنية والدينية، التواقة للتحرر من رواسب الفكر القروسطي والمدرسي العتيق. وقد عمدنا في كتابة هذه السيرة إلى تحري أسلوب جديد في رصد مسار حياة الفيلسوف، أسلوب مقارن وهادىء ينأى عن مجمل الصيغ الإنشائية المتحمسة، التي قد تمجد الشخص أو تسعى إلى التشهير به. ولا يفوتني، بهذه المناسبة، أن أنوه بالمجهود الخاص الذي بذلته شريكة حياتي، وحيد منى، في قراءة مسوداتي ومراجعتها وتصويب ما انحرف منها. ولها، عاشقة الفلسفة، أهدي هذا العمل.
عبد القادر الجموسي
لندن: أبريل 2008