تنفتح رواية "وحدها شجرة الرمان" للكاتب العراقي سنان انطون؛ الصادرة عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، بسردية حكائية بسيطة تفاجئك احياناً بانعطافاتها إلى صور حلمية فنتازية، متقطّعة بحسب خطوات السيناريو السينمائي، على مشهديات الموت الذي يلتهم قلب بغداد الم
أنت هنا
قراءة كتاب وحدها شجرة الرمان
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 10
أخذ أبي علبة الكافور وقاس مقداراً بملعقة صغيرة ووضع المسحوق في إناء ثم اقترب من الدكّة ومسح المساجد السبعة: جبين الرجل وطرف الأنف والخدين والذقن، ثم باطن يديه، ثم ركبتيه وإبهامي الرجلين· غسّل أبي يديه ورجليه مرة أخرى وكذلك فعل حمّودي بعده· أخذ أبي بعض القطن من الدولاب وملأ منخري الرجل ثم وضع بعضاً منه بين فخذيه وقلَبَهُ ووضع القطن بين إليتيه· علمت فيما بعد أنه يفعل هذا كي لا يخرج الدم من الميّت·أخذ أبي نفساً عميقاً· جاء حمّودي بقطعة قماش ومقص ناولهما لأبي الذي قص منها قطعة طويلة وأعاد المقص وما تبقّي من القطعة إلى حمّودي· شد فخذي الرجل إلى بعضهما البعض ولف القطعة حولهما مرّتين· ناوله حمّودي ما تبقّى من القماش فلفّه حول رأس الميّت وعممه من فوق وربط القطعة تحت حنكه· ثم جاء حمّودي بقطع الكفن الثلاث وناول أبي أولاها ففرشها فوق جسد الميّت وغطّاه من السرّة إلى الركبتين ونثر عليها بعض الكافور· ثم ناوله حمّودي قطعة ثانيّة أكبر، فرشها وغطّى بها من المنكبين إلى ما فوق القدمين· تعاونا على لفّها حول جسده من تحت· القطعة الثالثة كانت الأكبر وغطّت جسد الميّت بأكمله حتّى بقيت فضلة منها من الجهتين وكانت هناك أدعية مكتوبة بالأسود على حافتيها· أخرج حمّودي ثلاثة شرائط من القماش وناول أبي واحداً منها، فأخذه ولفه حول أسفل الساقين وعقده· ثم تعاونا على رفع جسد الميت من كتفيه ومرّر أبي الشريط الثاني بيده اليمنى من تحت ظهره فأمسك حمّودي بطرفه الثاني· ثم أعادا الميت وعقد أبي الشريط وكذلك فعل بالشريط الثالث الذي ربط به حافة الكفن من جهة الرأس· سحب أبي نفساً عميقاً وقال بصوتٍ عال: لا حول ولا قوة إلّا بالله وهو ينظر إلى الجثة المكفّنة· بدا الميّت كالطفل المقمّط ولكن بلا حراك أو بكاء· كان أبّي يتمتم الأدعية أثناء الغسل لكنه نادراً ما كان يقول شيئاً لحمّودي· كانا قد عملا معاً لسنين طويلة وكانا يتفاهمان بالنظرات والإيماءات ويعملان على إيقاع شبه ثابت· طلب حمّودي من أحد الرجلين أن يساعده في جلب التابوت بالقرب من الدكّة واتّجه إلى الزاوية اليمنى حيث كان هناك عدد منها· ساعده الأخ الأصغر في حمل التابوت وجلباه ووضعاه بالقرب من الدكّة· وقف أبي عند رأس الميت ليحمله من كتفيه برفق وقابله حمّودي من الجهة الأخرى واستعد لحمل الميّت من تحت ركبتيه· قال أبي يا الله وكانت تلك الإشارة لكي يحملاه· وضعاه في التابوت برفق· ثم ذهب حمّودي إلى الحديقة الصغيرة وجلب منها جريدة من النخل أعطاها لأبي الذي كسرها إلى قطعتين ووضع واحدة منها إلى يمين الميت على طول الذراع بين عظم الترقوة واليد والأخرى إلى يساره في نفس المكان، كي ترفع عن الميت عذاب القبر، كما قال لي فيما بعد· كان أحيانا يضع غصنيْ سدر أو رمّان بدلاً من السعف· غطّى أبي التابوت وقال للرجلين الله يرحمه· وكانت هذه العبارة إشارة إلى نهاية طقوس الغسل· دفع الأخ الأكبر ثمن الأكفان والأكراميّة وشكر أبي· بعدها بدأ الأخوان يستعدّان لحمل التابوت وساعدهما حمّودي· قال لي أبي أنّ أفتح الباب لهم ففعلت وأغلقته وراءهم· عندما عدت إلى الداخل كان يرتّب الطشوت والأجّانات ويصفّها، لكنّه أبقى واحدة منها قرب الدكّة· عندما عاد حمّودي بعد عشر دقائق ملأها بالماء الساخن وأخرج قليلاً من السدر وأخذ يغسل الدكّة ويفركها بأسفنجة· ذهب أبي إلى الغرفة المجاورة وجلس على كرسيه· ثم سمعت صوت مسبحته تطقطق قبل أن تغمر صوتها أغنية من الراديو الذي فتحه· بدت الأغنية كأنّها قادمة من عالم بعيد لم يغرق بعد كليّاً في الموت كما غرقت هذه الغرفة لساعة أو أقل· تعجّبت من قدرة أبي على العودة إلى إيقاع الحياة العاديّة بسهولة بعد كل مرّة يغسل فيها أو بعد كل يوم يقضيه هنا كأن شيئاً لم يكن· كأنّّه ينتقل من غرفة إلى أخرى ويترك الموت وراءه وكأنّ الموت خرج مع التابوت وذهب إلى المقبرة وعادت الحياة إلى المكان· أمّا أنا فكنت أشعر بحضور الموت في المكان كله حتّى بعد أن رحلت الجثة وخيّل لي بأن الموت كان يلاحقني إلى البيت· استحوذت علي حقيقة أن ما يشتريه لنا أبي كان بفضل الموت وحتى ما نأكله كان الموت هو الذي يشتريه لنا·
عندما عدنا إلى البيت مساء ذلك اليوم سألتني أمّي عن يومي الأوّل مع أبي فقلتُ لها: زين ففرحتْ وقالت: عفية بالسبع! لكن وجه الرجل الميّت كان يتفرّس فيّ تلك الليلة لكن بلا عينين، فقط بمحجريه الخاويين· لم أقل لها أو لأبي شيئاً عن الكابوس الذي ظلّ يعاودني ذلك الصيف في فترات متفرّقة· كان وجه ذلك الرجل يغيب أحياناً لتحل محله وجوه موتى آخرين، محاجرهم خاوية أيضاً، لكنه كان دائماً يعود ويظل صامتاً يتفرّس دون أن يغمض عينيه· وجه بلا جسد· عندما تناولنا العشاء ليلتها بقيت أراقب أبي وأصابع يديه وهي تقطّع الخبز وتضع الطعام في فمه· كان من الصعب أن أصدّق بأنها ذات الأصابع التي فركت جسداً ميتاً قبل ساعات·
تغيّرت وجوه الموتى وقاماتهم وعلاماتهم الفارقة، لكن إيقاع الغسل كان ثابتاً لا يتغيّر ولا تتغيّر تفاصيله إلّا في حالات نادرة· قبيّل نهاية ذلك الصيف جيء برجل مات محترقاً في حادثة في مصنع للكيمياويّات وكان جسده مغطى بحروق شديدة التهمت بشرته وغيّرت لونها في كل موضع· لم يتحمّل أقرباؤه المنظر فانتظروا في الخارج· أزال أبي الملابس عن جسده بصعوبة واكتفى بصب الماء عليه ووضع القطن وتكفينه بدون أن يستعمل السدر أو الكافور ودون أن يفرك أي بقعة منه·تقيّأت يومها وتوعّكت لأيّام لم أذهب فيها مع أبي الذي لم يقلقه الأمر وقال لي: لا تخاف، راح تتعوّد على هالأشياء· ولم أعد للعمل مع أبي حتى الصيف التالي·