في كتاب "المحاورات السردية" للكاتب والباحث العراقي د.
أنت هنا
قراءة كتاب المحاورات السردية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 5
- أنت تتحدث عن استثناء في التاريخ الإسلامي، ذلك أن الأمية لم تكن شرفا إسلاميا بالمرة، فالدين الإسلامي يحثّ على القراءة والكتابة·
- لا تمكننا الشذرات المنتزعة من سياقاتها على تأكيد هذا القول إلا بوصفه دعوة للتعلم، لكن بنية العقيدة، وطريقة نزولها، وكيفية نشرها، وتداولها، وتدوينها أخيرا في مصحف باعتباره حافظا لكلام الله الشفوي، يظهر لنا الخلفية الشفوية للحدث الإسلامي بأجمعه· ليس من المفيد للثقافة الإسلامية اختزلها بقول أو قولين، فحينما نستعيد تلك التجربة الثقافية الكبيرة، وكيفية تبلور ملامحها، نجد أنها عامت كلها على نسق شفوي من التداول، ولا سبيل لإنكار ذلك، لا يصبح الشذوذ قاعدة، ولا ينبغي·
- هل هنالك ما هو أوضح من ابتداء القرآن الكريم بلفظ اقرأ؟
- دعوني أوضح هذا الأمر بالتفصيل لأن اللّبس قائم فيه· لقد خرّج الغزاليّ أميّة الرسول على أنها عدم القدرة على قراءة الكتاب البشريّ، لمُكنته من قراءة الكتاب الإلهيّ، لا مقارنة إذن بين الاثنتين، فالحقائق الخالدة لا توجد في كتب البشر الفانية، إنما في كتاب الله، وذلك كتاب يعرف الرسول وحده قراءته· أمر جبريل الرسولَ أن يقرأ في الآية الأولى من سورة العلق قائلاً اقرأ باسم ربك الذي خلق، فاعتذر الرسول ما أنا بقارئ فَهم المفسّرون ذلك بعدم قدرته على القراءة· وهذا معنى مباشر للكلمة لا ترجّحه سياقات ذلك العصر، فمراد جبريل هو أن تتولى التبشير بالقرآن، أي استخراج الوحي من القلب وقراءته بالصوت باسم الله، أي نيابة عن الله·
ولدينا تأكيدات قرآنية كثيرة على ذلك، فقد وصف القرآن الرسولَ في سورة الأعراف بـأنه النبيّ الأميّ، قال تعالى {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}· لكن الآية الثانية من سورة الجمعة أوضحت القصد العامّ من ذلك الوصف، حينما دفعت به إلى منطقة دلاليّة لا يفهم منها معنى الجهل بالقراءة والكتابة· قال تعالى {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأميِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}·
لا يخفى الفرق بين أن يوصف نبيّ بـأنه أميّ وأن يوصف قومه كافّة بـالأميّين، فذلك من المحال، إنما الكلّ يفسر الجزء، فالوصف يحمل دلالة أخرى، إذ هو نعت لذلك النبيّ الذي بعث لغير بني إسرائيل، لأنه، وطبقا للمرويّات التوراتية، لم يظهر نبيّ من غير بني إسرائيل· معنى أمي وأميين وأمم، يشير، في التراث العبرانيّ، إلى كلّ الأمم ما خلا اليهود، فدلالة الأميّ في القرآن تحيل على نبيّ من العرب أرسل إلى قوم من غير اليهود، فلم يكن لا هو ولا قومه من بني إسرائيل، كما كان شائعا من قبل في تقاليد ظهور الأنبياء والرسل· ولا يرشح من كلّ ذلك معنى الجهل بالقراءة، كما شاع في الثقافة العربيّة-الإسلاميّة·
- إذن، هل ثمة خلاف حول موضوع أمية الرسول؟
- أظن أنه آن الوقت لإعادة النظر بالفكرة اللاهوتية الشائعة حول أميّة الرسول، ومراجعة مفهوم الأمية الذي كان يحيل على معان غير المعاني الشائعة في العصور الحديثة، فالتطوّر الدلاليّ للألفاظ ترك خلفه سيرة شبه مجهولة من المعاني المطمورة، لكثير من الكلمات· ولم تعنَ العربيّة بمعجم دلاليّ يتتبع معاني الألفاظ، وتحولاتها، ويكشف المتروك منها، ويبيّن المهجور، فيُظن بأن المعنى الشائع هو المعنى الأصل منذ ظهور الكلمة· على أن الأميّة، بالمعنى الحاليّ، لم تكن مَنقصة في عصور المشافهة الأولى، بل كانت فخرًا، ومباهاة، فالنسق الشفويّ صاغ الثقافة صوغا شفويّا، ولا يعرف عن كثير من كبار شعراء الجاهليّة معرفتهم القراءة والكتابة، وهم وسواهم من الخطباء، والقصّاص، سبكوا نسيج اللغة العربيّة، وأقاموا صرح فصاحتها، وكانوا ينهلون من ذخيرة الألفاظ في عصرهم، ويتداولون بها أفكارهم، ويعبّرون عن أنفسهم، فطوروا أساليبها، ودلالاتها، وظهر النبيّ في وسط هذا المحيط الشفويّ، فلا مَنقصة، بأيّ معنى من المعاني، إلاّ يكون قد عرف القراءة والكتابة، فلم تكن بعدُ قد رسخت أهميتها، ولا يصحّ إسقاط مفاهيمَ ثقافيّة تعود لمرحلة تاريخيّة لاحقة على مرحلة سابقة·