رواية "شتاء العائلة" للروائي العراقي علي بدر؛ وتصوّر هذه الرواية تهدم وانهيار الطبقة الأرستقراطية البغدادية في الستينات والسبعينات بعد اندلاع الثورة، وذلك عن طريق قصة حب سيدة في الأربعين من عائلة ترتبط بالبلاط الملكي المنهار، فترفض الانخراط في الحياة الجديد
أنت هنا
قراءة كتاب شتاء العائلة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 1
حضور الغائب
قبل عدة أيام، زرت منزلنا القديم، منزلنا الذي ولدت فيه أشبه بجنة من زهور القرنفل وهو يطل على النهر، وعلى مقربة من حدائقه السلطانية الكبيرة كانت هنالك مفازة من الآس والسدر، حيث كان موج النهر يلفّ بلسانه خاصرة البساتين؛ لقد دخلت صالته الرطبة الباردة بهدوء، رميت حقائبي الجلدية السود على بلاطه المرمري الصلب وسرت قرب زهريات سيراميكية ثلاث موضوعة في الزاوية، توقفت، خلعت معطفي الأسود ورميته على الأريكة الخشبية، ثم صعدت السلم المرمري إلى الدور الثاني· كان ضوء المصباح المتوهج ينعكس بقوة على البلاط الشطرنجي الذي يظهر في المساحات التي لا يغطيها السجاد الثقيل، فتحت باب الحجرة الكبيرة ودخلت، كانت خزانة الصور موضوعة قرب السرير تماماً، خشبها الساج المطعم بالعاج وقد علاه الغبار جذبني بقوة، رائحة الذكريات الشبيهة برائحة فاكهة مخمرة جذبتني، وهناك ماض موحش ينبعث من كل مكان·
فتحت خزانة العائلة بيدي فصر بابها الثقيل بصورة ناعمة، جلست على الكرسي المطل على النافذة، وأخذت أقلب صوراً قديمة، دفاتر ذكريات، عقوداً رسمية، فاتورات، وفي تلك اللحظة سقطت صورة من يدي على الأرض، كانت صورة باللونين الأسود والأبيض لعمتي وهي شابة، فنظرت إليها، نظرت إلى عينيها القاتمتين المسحوبتين برقة، أنفها المرتفع قليلاً، استدارة وجهها الناعمة، وملابسها الجميلة المحتشمة· وضعتها برفق على المنضدة، وأخذت أقلب دفتر ذكرياتها، فتذكرت حفلة جدي ليلة رأس السنة، كنا في حديقة الطاووس المنسقة تنسيقاً هندسياً رائعاً آنذاك، وكان شعاع القمر الفضي ينهمر على قبعات النساء الحريرية، وعلى طوب الشرفات الشائهة برقة، بينما كانت الكلاب اليابانية البيض تتحلق حول أقدامنا تحيل فضاء السهرة إلى شيء شبيه بالأحلام·
فجأة تذكرت المنزل المنيف المشيد في الضاحية الراقية المطلة على ضفة النهر، حين اعتمرت النساء قبعات نحاسية وارتدى الرجال جلوداً مكعبة ليلة رأس السنة· كنت سهرت هناك في بيت جدي محلقاً على الشرفات العالية، حتى شهدت شروق الشمس على القنصليات الأجنبية المشيدة مثل منازل مخروطية قبالة المتنزه الملكي، وكان الدخل يتربص بالأسيجة الواطئة لشجر الزعرور في الحدائق الغابيّة بأزهارها الصباحية المخضلة التي تمتد على ضفة النهر المرتجف أول الشمس·