قراءة كتاب العريضة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
العريضة

العريضة

رواية " العريضة " للكاتبة القطرية نورة آل سعد؛ و نقرأ من اجواء الرواية : هل بإمكان حادث طارىء وعابر أن يجردها من حياتها ؟

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 5
كل ما يعلمه (بو سالم) هو أن عائشة خطبت قبله لاثنين؛ أحدهما ابن الجيران، والآخر ابن خالها، أما ابن الجيران فقد غادر البلاد لفترات طويلة، وأما ابن خالها فلم يُدع قط إلى بيته لوليمة أو مناسبة، بل تجاهله (بو سالم) تماما (كان بوسالم رجلا غيورا بلا شك)، ولكن لم تزعجه الدموع التي كانت تسحها عائشة سحا بلا حساب أمام مشاهد المآسي العاطفية في الأفلام العربية، أو في الروايات التي كان يبتاعها بنفسه أو يوصي عليها من بيروت والقاهرة، لأنه ظن بأن ذلك جدير بأن يحرك فيها بعض الأحاسيس أو قد تستثار بعض الشيء· كان جابر قد حاول اتباع أكثر من وسيلة لقنها إياه أصحابه ممن ابتلوا بزوجات غشيمات وطينتهن ثقيلة كطينة زوجته، ولكنه اضطر في النهاية إلى التقنع بحظه منها، فلا شيء يغير نفسية زوجته وسوداويتها·
 
لم يشك (بو سالم) في زوجته أم أحمد؛ فقد أخلصت له دائما ولم تدس قط موطن شبهة على حد علمه (وهي تحت بصره وسمعه دائما) لأنه لا يترك مجالا للفرص والحوادث أن تقع! كان يحزنه حتما ويجرح رجولته أن لديها من العواطف ما تبذله سخاءً ودموعاً أمام تلك الأفلام السخيفة، وتمنعه إياها في غرفة نومهما، وقد خطر بباله بلا شك أنها امرأة قادرة على الحب ولكن ليس معه هو بالذات·
 
حثت عائشة خطاها مسرعة حتى انها لم تنتبه لوقع خطوات مصاحبة مسرعة خلفها وصوت يدعوها: (يا مدام!) حتى حاذاها فالتفت يمينا لترى شابا يناولها نظارتها التي وقعت منها، وحينئذ لم تتمالك نفسها أن استدارت خلفها إلى حيث كان يقف صالح بن أحمد منذ دقيقة مضت، ولكنه لم يعد هناك! ليس ثمة حولها إلا الضجيج الطنان للشعارات التي تتبدد في الهواء ويرددها شباب غاضب، ولكنه ليس مؤمنا بها بشكل كاف! واصلت السير وعندما رفعت رأسها رأت الشوفير الذي بدا أسعد شخص في العالم، وأخذ يلوّح بقبعته المضحكة في الهواء (وقد وجد لها أخيرا استعمالاً مفيداً) وبقربه وقف ابنها أحمد الذي كان ينظر إلى أمه مبهوتاً وممتقعاً·
 
لم يعد أحمد وأمه إلى البيت بل عرجا إلى المطعم ليتغديا ويتحدثا كما اتفقا سابقا، شعرت عائشة بأنها مضطرة - كما هي عادتها دائما - أن تبرر له كيف دفعت دفعا - على حد تعبيرها- لكي تتصرف على ذلك النحو، وأنها لم تحسن تقدير الأمور، ثم استخدمت كلمات قللت من أهمية ما حدث ·
 
ومع ذلك قالت لتبين له بأنها خاضت تجربة غير سارة: بيروت لم تعد آمنة يا أحمد! أرادت أن تعبر له عن جانب عام من شعورها ولكن بإبهام وحيادية! قالت له: تمنيت أن أختفي من المكان! أرادت أن تظهر بلا إرادة وبلا قابلية للغواية، لكنها في الحقيقة كانت قادرة أن تجعل من العالم ومن الآخرين غير مرئيين· تمضي عائشة في الحياة من دون إرادتها· تنعقد الأمور من دون استئذانها، وتتوالى كل يومياتها الممسودة كحبل طويل مفتول، يلتف حول عنقها وذراعيها، ومع ذلك فإنها لو خيرت لما وسعها أن تختار حياة سواها!
 
بدأ الطنين في أذنيها منذئذ· وكان يعاودها ذلك الطنين كلما دخلت في سوداويتها المتفاقمة· كانت عائشة مغتاظة ومخذولة ولكن لم تتسن لها خلوة تذرف فيها دمعة أو دمعتين· تطلعت إلى أحمد الذي كان مشغولا بهمّه الصغير الذي لم يعد سراً! وبينما كانت أمه تتجرع غصص الحب المنسي، كان أحمد قد اختار أسوأ الاوقات ليحكي له عن حبه لفتاة (طيبة بنت ناس) التقاها ويريد أن يتزوج، ويعدها بأن ينتبه لدراسته ·
 
لم تزل عائشة تفكر: ماذا رأى صالح أمامه ؟ وكيف لم يلحظها وهي واقفة أمامه وقد كانت تنظر إليه بذهول مثير للشفقة! لم يلحظها وهي التي تعلقت نظراتها بمخلصها المزيف! نسيت ابنها ونسيت زوجها، ولم تعش تلك اللحظة إلا بوصفها عائشة بنت المرقاب، وهو صالح بن أحمد! ربما لو دعاها باسمها للجأت إلى الاحتماء به فهي لا تعرف في تلك اللحظة سواه · عاشت حياتها ولمدة عشرين سنة خلت مأساة الحب اليائس، واستطاعت جذوة تلك المأساة أن تبقيها حية وفوق كل أحداث حياتها· تعرف بالطبع بأن صالحا تزوج وأنجب ومضى بحياتها، ولكنها كانت متشبثة بتلك الصلة الروحية التي تربط بين الشتيتين حتى لو (أيقنا بأن لا تلاقيا)، ولكن بعد مواجهة اليوم وجحوده التام! شعرت عائشة بالإهانة لتلك الذكرى! الذكرى صورة داخل برواز! الصورة ثابتة وخالدة، فقد التقطت مرة وإلى الأبد، ولكن عائشة لم تعد تستطيع النظر إلى تلك الصورة بعد أن شرخ الزجاج وتشوهت الصورة من زواياها·
 
عانى أغلب الناس أوجاع الحب المرفوض وارتجاعاته في ممرات حياتهم، ولكنهم لا يكشفون أوراقهم ولا يواجهون ذلك الألم الأول! لايفعلون لأنهم يحتاجون إلى ضرام وقوده لكي يواصلوا حياتهم وإلا اكتشفوا بأنهم يحيون حياة زائفة·
 
اليوم استلب منها صالح بن أحمد جناحيها! كاد أن ينتزع منها قوتها على الصمود والاستمرار في حياتها! ولكن الموقف بالإمكان إنقاذه!! لقد خذلها أمام أشخاص لا يعرفونهما ولا يعلمون بأمرها، ولئن كان قد جرح شعورها أيما جرح فإن جراحها قادرة على الالتئام؛ إذ إنها جراح لا وجود لها إلا في ذهنها وضميرها! إن حبها الخالد يخصها وحدها· تستطيع أن تبقيه، وأن تستدعيه، وأن تخفيه، وأن تميته، وأن تحييه حتى صالح بن أحمد نفسه لا يملك أن يخنق حبها أو يلغيه أو يغير فيه! إن صالح بن أحمد ليس موجودا إلا بمقدار ما تحدده! ولا يعني لها أكثر مما تقرره وتحتاجه·

الصفحات