في رواية "سواقي القلوب":
بفضل سراب عرفت كيف تغدو الحواس كمنجات وحاذيت السر الذي يحيل ممارسة الحب تمريناً على فعل الخلق.
ومعها بلغت ضفاف بحيرات لم أتيقن يوماً أنها كانت كامنة في خبايا جسدي.
أنت هنا
قراءة كتاب سواقي القلوب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

سواقي القلوب
الصفحة رقم: 6
4
نصب زمزم كاميرا الفيديو على أرجل معدنية ثلاث أمام الكرسي المتهالك الذي تجلس عليه الخاتون، وكبس على الزر فاشتعلت نقطة حمراء، وأشار اليها بيده في حركة مسرحية كأَنه يطلبها للرقص، فتسلَّمت الإشارة وابتدأ التسجيل:
ـ اسمي كاشانية بنت الصائغ ميساك سمَّاقيان· جاءت أُمِّي الى الموصل مع شقيقتي الكبرى ناجيتين من مذبحة الأرمن التي راح فيها أبي وشقيقاي وبقيَّة أهلي· وكانت أُمِّي حبلى بي، أو لعلَّها شقيقتي التى اغتصبها الأجلاف مع المئات من البنات المنكودات الحظ، فألقت حملها على الأُم التي تلقَّفته وأغلقت فمـها على السرِّ، سـتراً ودرءاً للفضيحة·
لا تسألني كيف جاءتا من هناك ومن الذي أنقذهما لأنني لا أعرف· كل ما قيل لي عن أُمِّي إنَّهـا لم تكـف عن البكاء حتى ماتـت كمداً، فأرسلوا شقيقـتي الى الدير، وتعهَّدتني، وأنا بنت أشهُر، امرأة موصليَّة مسـلمة تدعى ام شـيت، أرضعتـني وربَّتني مع أبنائها، شيت ويونس وعقيلة وغزالة وذنُّون· فلمَّا شببتُ وصرت أفهم الدنيا، كانت ترسلني الى كنيسة الطاهرة، صباح الأحد، وتعطيني أربعة فلوس لكي اشعل لها شموعاً أمام تمثال العذراء، وفاء لنذر قديم لا ينطفئ·
يشير لها زمزم، من وراء الكاميرا، مسدلاً كفيه على جانبي رأسه، فتلتقط الإشارة وتواصل:
ـ لا، لم ألبس العباءة في حياتي رغم أنَّ الموصل من المدن المحافظة· وكانت أُمِّي المسلمة تقول لي إنَّني نصرانيَّة وإنَّ ديني يعفيني منها· لكنِّي رأيت نساء النصارى واليهود يلبسن العباءة عند خروجهن من البيت· أمَّا أنا فكنتُ اغطِّي رأسي في الكنيسة مثل جميع النساء، وليس مثل بنات هذا الزمان اللواتي يتقدَّمن لتناول القربان وهن بالبنطـلون الضيق··· أستغفر الله···
تنتاب الخاتـون، فجأة، نوبة من الضحك تجعلها تهتزُّ ويحمرُّ وجهها، فتغطِّي عينيها الدامعتين بيديها وتحتـجُّ على زمزم بدلال جميل:
ـ ولك ملعون··· ماذا يفيدك هذا الكلام؟ ولك ليش تريد تصويري بالفيديو··· قابل أنا تحيَّة كاريوكا؟
يوقف زمزم النور الأحمر وهو يتأََفف من تمرُّدها عليه، ثم يعود الى تكرار الكلام الذي قاله لها مئة مرَّة:
ـ هذا هو التاريخ يا خاتون، يا عيوني، وأنت جزء من تاريخ العراق الحديث، وحكايتك شهادة مُهمَّة وذات مغزى، والمرء لا يقع على هذه التفاصيل في الكتب، ولابد من حفظها من الاندثار· إنَّ حديثك لي هو عمل وطنيٌّ··· ألست مواطنة عراقيَّة صالحة؟
تتمنّع الخاتون وهي تتطلَّع في اتجاهي لكي أقف معها ضد زمزم، ولمَّا تجدني منصرفاً الى المطالعة في القاموس المنجد، كتابي المفضَّل ، تعاود الضحك كاشفة عن سنِّها الذهبيَّة في الجانب الأيسر من فمِّها، ثم تتصنَّع الغضب وتقول:
ـ كافي تسجيل· خذ كاميرتك وانصرف يا ولد· مو عيب تلعب بيَّ وأنا في عمر بيبيتك؟
ـ ألعب بكِ؟ أنا ألعب بـكِ يا خاتـون؟ والله عيب هذا الكـلام· أنت تاج راسي يا خالة، ومصدر حيٌّ من مصادر اطروحة الدكتوراه التي يجب أن أنتهي منها هذه السنة، وإلاّ قطعوا عنِّي فلوس البعثة وتركوني أموت من الجوع· هل تقبلين أن أموت من الجوع والعطش يا خاتون؟
ـ العطش ! هذا ما تخاف منه يا ملعون··· تخاف أن تنقطع عنك البيرة·