أنت هنا

قراءة كتاب سواقي القلوب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
سواقي القلوب

سواقي القلوب

في رواية "سواقي القلوب":
بفضل سراب عرفت كيف تغدو الحواس كمنجات وحاذيت السر الذي يحيل ممارسة الحب تمريناً على فعل الخلق.
ومعها بلغت ضفاف بحيرات لم أتيقن يوماً أنها كانت كامنة في خبايا جسدي.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 8
5
 
تخلع عنَّا الغربة أهالينا وتكسونا بأهل من غير دمائنا وأُخوة لم تلدهم أُمَّهاتنا·
 
تحرث الغربة ألسنتنا المزروعة باللغة الأُم وتشتل فيها لغات جديدة نجاهد لكي نتفوَّه بها·
 
تأخذ منَّا الغربة ماضينا وتكبسه ، مثلما تُكبـس قطع الخيار والجزر وثوم العجم، في خابيات النسيان· وتترك للروائح اللاذعة أن تهِّب علينا، في أحايين غير معروفة، فنتلفَّتُ بحثاً، كأن عن شلوٍ ناقص من أشلائنا·
 
تـنـفض الغربة قلوبنا كما ينفض الحمَّالون الأشدَّاء أكوام السجاد في الشوارع العريضة المُعبَّدة، أوائل الربيع، فتزداد القلوب ثقلاً·
 
تحررنا الغربة من غبار الذكريات وذرَّات المألوف، وتدخلنا الى حمَّام التخفُّف، فنخرج وقد انعجنَ الغبار وتكتَّلَ وصار حصى يملأ منَّا الجيوب·
 
لكنها، الغربة، إذ تُشـفق علينا من هجمـات الحنين، تسمح لنا، في خلسات مبهمة ، أن نغشَّ في امتحان الجَلَد والمكابرة، وأن نتمسَّك بزاد قليل مما جئنا به في حقائبنا، شرط ألاّ نخلخل النظام المتمدِّد، سعيداً، في جنباتها·
 
و وفق هذه القوانين، خلعت عني الغربة أهلي وأصدقاء شبابي ، وانتزعت منِّي ملامح نجواي، وألبستني زمزم، وكاشانيَّة خاتون، وسوزان، وسارة ، وسراب··· عزيزة روحي·
 
قدَّمني اليها جبرا ابراهيم جبرا في إحدى زياراته الى باريس قائلاً انها عراقية حلوة، مثقفة، وحرَّة ولذلك فإنَّه قرَّر أن يكتب عنها رواية ويسمِّيها باسمها· ولم أدرِ هل كان جبرا في معرض الجدِّ أم الهزل، لكن صديقه المغربي الباهي محمَّد التفت نحوي وقال بصوت رخيم وباللغة الفصحى:
 
ـ حذار من الأقتراب منها لأنها، عند ذاك، تختفي مثل السراب·
 
لم يترك عليَّ حضورها، في ذلك اللقاء الأول، سوى بعض الفضول واحساس خفيف بالانتعاش، كأن يداً فتحت نافـذة على حقل من الريحان في غرفة مختنقة بالأنفاس·
 
مرَّ التعارف الأول بدون تبعات، وجاء اللقاء الثاني بعد أكثر من شهرين، في آخر مكان يمكنني أن أتصور وجودها فيه·
 
كنتُ قد صعدتُ الى شقَّة كاشانية خاتون التي تعلو شقَّتي، كعادتي في أغلب المساءات، فوجدتُ سراب هناك، جالسة في المقعد الذي اعتدتُ أن أجلس عليه، مقابل النافذة الكبيرة المطلَّة على بولفار بلانكي، تهزُّ رأسها طرباً وهي مغمضة العينين ، تستمع الى أُغنية لزكيَّة حمدان من جهاز التسجيل· اغنية لم أسمعها منذ أيام طفولتي، كانت عمَّتي تؤديها في ساعات شجنها، ثم تبكي لألف سبب ولا سبب· وقد أدهشني أنَّ الخاتون تحتفظ بذلك الشريط الذي لم أسمعه عندها من قبل· أم هي الضيفة هي التي جاءت به ؟
 
و مرَّة اخرى أحسست أنَّ نسمة ما تهفُّ في المكان ، رغم أنَّ النافذة كانت مقفلة· وجمدتُ في وقفتي وأنا بين الغبطة والحَرَج ، غير قادر عن نزع نظرتي عنها ولا عن الصليب الذهبيِّ الصغير الظاهر من فتحة قميصها· فلمَّا فتحت عينيها، بعد لأي، لم يبدُ عليها أنَّها استغربت وجودي، بل قامت بتثاقل كمن تغادر مغطس ماء دافئ، وقالت بصوت خفيض كاد ألاّ يصلني:
 
ـ عفواً··· أخذت مكانك·

الصفحات