"ليلة الهدهد" إصدار روائي عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2013. للكاتب العراقي المقيم في السويد إبراهيم أحمد، يقول الروائي عن ليلة الهدهد التي كتبت فصولها بين آب 2000 ونيسان 2013 في السويد وبغداد والقاهرة:
أنت هنا
قراءة كتاب ليلة الهدهد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

ليلة الهدهد
الصفحة رقم: 6
(3)
لا تزال الحياة تزورني بين فترة وأخرى!
ظل يونس يتمتع بذاكرة مشتعلة متأججة، قبل أكثر من ثلاثين عاماً، قال له صديق قديم له من المولعين بحدائق بغداد، وكتبها النباتية:
- ذاكرتك شجرة جهنمي متوهجة بزهورها دائماً، تزيد ألقاً كلما كبرت!
ويفهم يونس أن ذلك يعني أنها شجرة زينة وبهجة عابرة لا تثمر، لكن صديقه يحبه ولا يغمزه، وقد أدرك ثغرة كلماته فبادر للقول:
- رغم الهجير الطويل ظلت ذاكرتك يا صديقي شجرة ورد وهاجة فواحة بالأحلام والذكريات وهذه هي الثمرة الأرقى·
ويرد يونس بتواضعه:
- لا يا صديقي! نخلة واحدة أعطت أكثر مما أعطيت في نضالي، أو حملت في ذاكرتي ومخيلتي!
ويبدو أن ذلك الحكم لا يزال ساري المفعول حتى الآن· أمراض شيخوخته تتفاقم، يحس بدبيبها بين مفاصله، وتحت لسانه، ويعجب لبشرته النضرة فوقها بقيت أتحامل على نفسي، من أجل ذكرياتي أدافع عن جسدي، حتى اليوم لم يتخل يونس عن ابتسامته، وبريق عينيه الصافيتين رغم وهنهما· مسح نظارته الطبية عدة مرات وحاول القراءة فلم يستطع· ألقى الكتاب السياسي القديم، وتناول كتاب مختارات شعرية كان يحمله معه أينما حل وارتحل، صار يحفظ معظم قصائده، لكنه درب نفسه على أن يستنشق رائحة كل شاعر من الورقة المكتوبة عليها قصيدته: ورقة شاعر الحب: عطر زهرة مقطوعة لتوها، شجرة احترقت بصاعقة· ورقة شاعر الحكمة: رائحة ضوء جمر يشع من تحت رماد ليل طويل· ورقة شاعر حنين وبكاء على الأطلال: رائحة احتراق عشب ودموع وروث· ورقة شاعر السياسة: رائحة عصافير تحترق في ليل بهيم، حديد ملتهب يغطس في دم بشري· كان يسمع خلالها نبض قرائحهم أيضاً، هدير شلالات تنحدر من جبال، مياه أمطار تسيل بوديان مليئة بالصخور، مستنقعات راكدة تتحرك بقوة ما تحتها من كائنات غامضة، ويقترب منها مهما اختلف معها في السياسة والفكر، ظل يحب كل هذه الروائح والخفقات متكاملة متراصة منسجمة، قوارير عطر في حجرة امرأة مهجورة تذكرها بعشاقها القدامى، دائما لها وحيها وبوحها وحزنها، أحياناً يستنشق روائحهم معاً، ثم يعود يفردها كباقة ورد، فيحس بروحه تمتلئ، ويعود لحسابه الطويل مع نفسه تهمة كبرى قاسية أن يكون الإنسان معمراً في بلد يهرس الناس فيه بالحروب والاعدامات والكوارث! ترى أية ظنون وتساؤلات ستلقى علي منهم؟ ومن ضميري أيضاً؟ وماذا يختلف أن تعذبني ذاكرتي بشوكها، أو زهورها أو دخانها؟ كنت أقول أن ذاكرتي شعلة شمعة أريدها أن لا تنطفئ في هذه الريح، حتى تحرق آخر قطرة زيت ترسبت فيها من رحيق هذه الأرض، ثم تقول كلمتها وتمضي وبعد أن وجدت الكلمات لا تجدي نفعاً في عالم يحكمه الضجيج والصخب الفارغ العنيد؛ لم أعد مكترثاً أن تنطفئ شمعتي، لكنني أعود أبحث عن أي شيء يبقي جذوة همومي مشتعلة: كتب لا أقرأها، رفاق وأصدقاء لا يفهمونني، ولا أفهمهم، أحلام لم تتحقق، أحزان اخترقتني كالرصاص، وأحزان أخرى لم تأت بعد، رغبات لا تتحقق، ولا أريدها أن تتحقق، شموع من خلايا نحل عطرة لا أشعلها! وغيوم كثيرة في القلب، كنت دائما أقول لمن يلومونني على حزني وصمتي: لو أعطوني كل أفراح الدنيا المبهرجة؛ لما بادلتها بلحظة حزن حقيقية تمنحني فرح الحكمة والصدق والأمل! هجرني رفاقي بعد رفقة زادت على الستين عاماً، من أخذهم الموت هم الذين ينبغي أن يعتبوا عليَ، حيث لم ألحق بهم، أو كنت بشكل أو بآخر قد تسببت في موتهم أو عجلت به، ومن بقوا على قيد الحياة، ولا يزالون أصحاء أو يستطيعون السير على أقدامهم، يحق لي أن أعتب عليهم، فأنا رغم بقايا قوتي منهك عليل أتلهف لروائحهم وكلماتهم التي أحسها تدب في روحي كالماء في تراب قديم! هجران الرفاق والأصدقاء يبعث شجناً لذيذاً حين يذكر بهجران الحبيب الأول في مطلع الشباب، لكنه يبعث قشعريرة باردة في الروح حين يذكر أيضاً بموت الروح قبل الجسد! كيف أنسى القانون الساري بين البشر مذ صارت لهم مصالح وسلطات على بعضهم: حين تكون ذا سلطة أو جاه أو مال يبتدع الناس كل وسيلة، ويشقون كل طريق ليصلوا إليك، وحين تخلو يداك من سلطة أو مال أو جاه يبتدعون كل وسيلة، وكل طريق ليبتعدوا عنك! بعض الناس لا يكتفون بقطيعتي، راحوا يلوثون اسمي وسمعتي ويدعون الآخرين لمقاطعتي، لم أكن أتصور أن كل هذه القسوة تربض كإبر القنافذ الحادة تحت بشرتهم الهادئة الناعمة! جاءت أيام صارت أفضل أمنيتي فيها الرحيل بالموت، بذلك تكون مغادرتي آمنة ومريحة لمن حولي، لا يستغرق تجهيز الميت طويلاً، ولا يكلف أحداً كثيراً، خاصة وإنني ادخرت لذلك قليلاً من النقود، وضعتها في مظروف بارز في حجرتي، حدث هذا معي مرتين، وكلاهما عشتها وشهدتها من تلفزيون في مقهى صغير لا يبعد كثيراً عن بيتي: عندما سحق الأمريكيون وحلفاؤهم الجيش العراقي في الكويت، وتناثرت جثثت عشرات آلاف الجنود العراقيين على الطريق، بينما كانوا هم يتقهقرون باتجاه بلادهم· اندلعت انتفاضة في الجنوب، هب فيها الناس بشكل عفوي فسيطروا على المرافق الحكومية، وأزاحوا، وقتلوا معظم أتباع الدولة والحزب الحاكم· ولكن الإيرانيين ورجالهم من العراقيين؛ تسللوا إليهم وسيطروا على مواقع قياداتهم، ورفعوا صور حكام إيران وشعاراتهم· أثار ذلك فزع حكام الدول المجاورة؛ فاتصلوا ببوش الذي أمر شوارزكوف قائد قوات التحالف الدولي لوقف زحفه إلى بغداد، بعد أن صار على مشارفها، وأعطى الضوء الأخضر لصدام لسحق المنتفضين· شاهدت ما حل بأبناء الجنوب من مذابح، وانتهاك وتشريد! وليلتها بقيت أتقلب أرقاً؛ أحاول ان أستنفر خبرتي في السياسة؛ لأعرف كم جهة شاركت في صنع هذه المأساة، حتى عييت!