أنت هنا

قراءة كتاب مفارق العتمة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مفارق العتمة

مفارق العتمة

"مفارق العتمة " هي باكورة الإنتاج للروائي محمد عبدالله المزيني، طبعة المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2004،  يعرض فيها الروائي لسمفونية المكان الذي يلعب الدور الرئيسي والحيوي، فمنذ العنوان والقارئ يشعر بهذه الرسالة المكانية فكلمة مفارق توحي بالمكانية، كما أن

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 3

يفجر الصوت ذو الدرجات الظلية المبعثرة مكنونات ذاكرتي المنحوتة على قارعة الليل الملتحف بالظلمة، ترسل معها كوابيس نزقة·· أظل معلقاً في فيافيها العابسة، كشرنقة تحملها أجنحة الصمت اللعين·· تنكشف أمدية العتمة القابضة على أكتاف الكون، متسللة إلى أقصى مساحة من أنحاء جسدي المنهك· تحملني بين ذراعيها تسلمني يد الإرهاق والتعب عنوة إلى نوم عميق، لاتنقطع وتيرته إلا مع حشرجات صوت أبي القاطنة أبدا في أسماعنا، تزفها ذبذبات صوت المؤذن المرتعش مستبيحاً خلجات السكون كإعلان ابتدائي عن ميلاد يوم جديد· أترنح تحت وطأة هواجسي الدفينة تحت أنقاض الإرهاق· كيف يمكن أن أحمل ركامي من نوم عميق·· يخترق صوت أبي حواجز العتمة المخيمة على كياني، فأنهض محمولاً على أكف الأحلام متثاقلاً وفي ذهني صورتان تبعثان عليَّ النكد : الماء المتجمد سينسكب حتماً على أطرافي الدافئة، تنتابني رعشة تكاد تقبض أنفاسي، والوجه الآخر البرد القابع خارجاً بوحشية وحنق، وكأنها الضريبة اللازمة مقابل ساعات أحرقتها أنفاسنا تدثرها أغطية مبللة بروائح قديمة، فما أقسى الاصطبار على تلك اللحظات القميئة· أجتازها والخوف يرفرف بين جوانحي، خشية ألا تقع عين أبي الفاحصة على جسدي الناحل بين الصفوف الأولى من المسجد·· يتمخض هذا التفكير الموحش عن رغبة ملحة في مواصلة اجترار الأحلام العذبة· تتقاطع هذه الرغبة العارمة مباشرة مع عبارات والدي هادرة منذرة بشر مستطير، ويل لمن تخلف عن الصلاة مع الجماعة، لا مفر من مجابهة غواية التلذذ بدفء وثير، إلى حيث وجهان قانطان يحملان صوتاً مشحوذاً بالوعيد، ماء متجمد و شارع متجهم من شدة البرد· ووجهان آخران يلفهما خوف كانا يرسمان ملامح شخوصنا الطفولية·· خوف من الظلمة الراقدة في رحم الكون يلدها الليل وتحتفي بها الريح الصافرة· وخوف من الله كنت عندما أخافه أتبتل إليه بالذكر، أتحفز إليه بكل جوارحي، وسرعان ما يتلاشى الخوف أمام تقاطيع وملامح وجه أبي الصارمة تضيق ساعة فيحتل الخوف من أبي المساحة الكبرى من نفسي· أقتحم قلبي الراجف بسيل من الأسئلة لماذا أخاف أبي؟ هل لأني أحبه ؟ ولماذا أحب الله هل لأني أخافه؟ وعند سماعي تراتيل إمام المسجد الندية وهو يقرأ كعادته أجزاء من سورة يوسف تهدأ روحي وتطمئن، لا أدري هل هي طمأنينة من عقاب أبي لو تخلفت عن الصلاة، أم لأن هذه السورة كانت تناجي عقلي الصغير، بما تحمله من مضامين إنسانية تصورها قصة طفل فقده أبواه بمؤامرة من إخوته؟!·· شيء ما يسقط كحجر صغير في ماء راكد فيحركه على شكل دوائر متناغمة· كانت تلاوة القرآن بصوت الإمام العذب تملأ رأسي الصغيرة بما يفيض به من أسئلة كانت شائكة بقدر خطورة البوح، تشعل داخلي حرائق تومض بألسنة لهبها، تتغذى من أثداء الجحيم وسقر الملعونة·· أرتد هارباً أخفق بروحي هائماً إلى أقصى مسافة تضعني على أجنحة الأمن بعيداً من لعنات الأسئلة المقيتة، كي تزيح عن دماغي الصغير المنفتل على حجارة مشذبة سوادية دنف الولوج في دهاليزها، فقد تعلمت الدرس باكراً· تجاذبتني صور حية حفرت معالمها في ذاكرتي، مثلما انطبعت بالمقاس نفسه آثار كفٍّ غليظة تورم منها وجه زميلي في الصف،كان إلى قبيل تلك اللحظة الحاسمة يرسم صوراً حالمة لفضاء تعشقه الطيور، يكتحل زرقة تمخرها سحابات مراوغة· كان يتعطش دائما، في محاولات دائبة لإيقاظ التفاصيل الغافية بين جوانحه· فقط إلى قبيل اللحظة الحاسمة في حياته، عندما هوت يد أبيه الثقيلة على وجهه الصغير، كان سؤاله صغيراً سقط من لسانه سهواً (من خلق الله؟) جرف معه بقايا الأسئلة وغسل عاره لم يكد يصدق، حيث استدار إلى جهات الأرض الأربع· اختلطت ألوانها وسحقت بين عينيه وسقط (أنا أكرهه)، ثم يستدرك، (لا أحبه) لم يكن الخوف والمقت حليفين يهادنان قلبه الراجف· زاد وجيبه لحظة، كشر أستاذ الفصل عن أسنان تومض بلاهة وتشفياً·· تمنيت وقتئذ لو انتفخ حجمي الصغير وتورم المارد داخلي فأجرد هذا المعتوه المتعجرف من أسلحة الفتك والتهديد، ثم أوسعه لكماً وضرباً؛ لم يكن يرانا سوى كلاب تستحق السحق بمواد سامة حقيرة، بمباركة تامة من إدارة المدرسة وغياب كامل وتخل مطلق من أهالي الطلبة !· شيء ما يعزى للتربية والتقويم لا يصلح بمعزل عن العنف·تداعى إلى ذاكرتي مشهد آخر ضحيته أخي الأكبر، عاد من المدرسة يجر قدما ويعرج بأخرى من آلام مبرحة في كلتا قدميه نتيجة عقاب شديد وعصا ملهوف تؤز بين قدميه·· تلك اللحظة موجعة، إلى حد القهر، استطار فيها عقل أمي وقلبها صارت تخفق كحمامة مصوبة بصوت محشرج مبحوح سكنته غصة:

الصفحات