"الأعمال القصصية"؛ رغم ان بعض هذه المجاميع الست التي يضمها المجلد قد طبع أكثر من مرة سواء في بغداد أو بيروت أو دمشق أو القاهرة فإن طبعاتها قد نفذت كلها وأصبح العثور على نسخة منها أمرا متعذرا·
أنت هنا
قراءة كتاب الأعمال القصصية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

الأعمال القصصية
الصفحة رقم: 7
كنت أحس بأن لا حاجة لي لأن أكلمك كلمة واحدة رغم أننا نعرف بعضنا وغالبا ما نبستم عند اللقاء وفي اليوم الذي لا أراك فيه أحس بأعمق حزن يصل في ضلوعي، لن أكلمك، فما الداعي لهذا؟ الطيور والحيوانات تحب وتتآلف بدون أن تنبس بكلمة ذات حروف رنانة، إن بيننا خيوطا متينة تشدنا كالموت وعندما حدثتك عن حبي تلك الظهيرة شعرت بأنني قد أهنت أحاسيسي عندما حولتها إلى كلمات نطقها العشرات غيري·
لقد عشت الحب قبلك كأعنف ما يكون فنحن جيوش المحرومين الذين شاءت الأقدار أن تجعلنا الجسر الطويل ليعبر علينا آلاف الأغبياء سنبقى أبد الدهر جياعا، تروينا الكلمات الدافئة وهي تنطلق من الأفواه التي نرتجف شوقا للثمها، وقبلك عرفت ليلى إذ كنت متطلعا لأن ينتظرني قلب صغير، وكانت عنيدة مشوهة تتمنى أن يأتي فارسها وبيده مقود سيارته الفارهة وأنا المعدم البائس المتصعلك في المقاهي والحانات بماذا أجيء إليها؟ أن الخير كله في أنني أستطيع أن أنتعل حذاء معتدل الثمن، وذهبت ليلى عني بعد أن تركت لوعة لم أنسها إلا بعد ضنك مرير فرغم تلوثي لا تزال في أعماقي كبرياء البدوي الراحل في وحشة الصحراء على ظهر ناقته العزيزة، وخرجت من التجربة سالما لكنني لست الأول فأدميت قلب كل من تقع في طريقي، كان في نيتي أن أتعامل مع الشيطان من أجل أن أعلو وأنا أعرف أن اللعبة غادرة ولكنني لا أريد أن أعيش ضائعا، أريد أن أتسلق صوب الطابق الأعلى وأريد أن تتأملني العيون باحترام وأن ينهض الجميع عند قدومي ولا أنزوي في المقاهي ككلب أجرب·
ويوم رأيتك يا يسرى كنت افرط في أناقتي رغم بؤس أعماقي وقد شوت الشمس سحنتي لكثرة ما صليت في محرابها ولا زلت أعيش روعة هذه الأمسيات الجديدة، وأنا أراك فاتحة باب حديقة الدار ومتمددة بارتخاء على المقعد الخيزراني الطويل وشعرك القصير تداعبه أنسام المساء وانت شقراء كالشمس وأنا المحترق المولع بك حتى الجنون·
لقد أحببتك بعد أمي تلك القروية التي أورثتني حزنها الغامض، كانت تتكلم بثقة وذكاء رغم أنها لم تجلس على مقعد درس ولم تلبس حذاء عالي الكعب ولم تعرف أن لكل زي موسمه، وكانت تسهر على رعايتي كالرجل الشديد عند غياب والدي وكانت أرق من الماء وهي تهدهدني في فراشي وتحدثني عن (حمدة وحمد) وعن النسر الذي سرق ابنة السلطان، ويوم موتها لم أكن كبيرا ولكنني لا زلت أسمع حشرجات الموت تنطلق من حنجرتها الحبيبة بأنين أبدي عتيق، وكانت ممدة وقد صغر حجمها ولم أصدق أن هذه هي أمي الباسلة، أمي الرائعة الطيبة، وماتت، وذهلت أحقا أنها قد انتهت؟ وفرت الدموع من عيني ولم أبك بل أخذت أتأمل النساء بانبهار وذهول وهن يلطمن في ساحة الدار، وسألت أبي:
- أين ذهبت أمي؟
- لقد ذهبت إلى الله
- هل كل شيء يذهب إلى الله؟ كانت تمنعني من عد النجوم لأنها ملك الله وهي اليوم ذاهبة إليه ألا يمنعها من الدخول في بيته؟
- أبدا فأمك نظيفة·
- ومتى أراها؟
- قد تطول رحلتها إذا سافرت؟
وانتحب أبي ولم يرد علي بشيء·
ونسيت أمي يا يسرى ونسيت ليلى وصبيحة ولم تبق في ذاكرتي امرأة سواك، رغم أنني أجهل موقفك اليوم وقد أعدت عليك مرارا بأنني لا أستجدي عواطفك أبدا، بعد كل هذا الطوفان الطويل أنت الباقية، أتذكرك الآن بحزن مع أنني قد التقيت بك في موعد عابر صباح اليوم كنا فيه منفعلين ولم قل كلمة ذات معنى، وافترقنا والجراح قد ازدادت صليلا، أتذكرك يا يسرى وعبد الوهاب ينتحب في المذياع القريب مني، الجو مظلم خانق وأنا وحيد في بغداد، منذ شهور لم أر أهلي ولا إخوتي ولا أحبابي، كم كنت رائعة عصر اليوم وأنت في حديقة الدار بثوبك الوردي الهفهاف، تستلقين على الحشيش الأخضر وتبتسمين بطفولة رغم جنون عينيك، ومضيت عنك وقلبي يسرع في نبضه والدم يحتقن في عروقي، انني كئيب جدا، لقد قلت لي بأنك سترحلين قريبا، والبعد لغز كبير وفزاعة قد تصطادك، وأنا محب موله قد أضاع تاريخه ولم يخطط لأيامه القادمة بعد ولن يمنعني عائق من اللحاق بركبك أينما ذهبت، فلم يعد لي شيء، أمي رحلت وطالت غيبتها في السماء وليلى أم الآن لها زوج وبيت ومشاغل، وأنت مقفلة كئيبة، قلت لك: أما كفاك تعذيبا لي؟ متى نهدأ؟ ولم تردي بشيء·
يسرى·· يسرى·· ماذا بعد كل هذا الأنين؟ أشعر بالحمى تطفئ عيني والليل بدون وجهك رهيب مخيف، وأزيز طائرة قادمة يشوه الصمت·
سأدخن الآن، أقتل نصف ما بعلبة سجائري حتى أتعب وتمتد أناملك الناعمة لتداعب شعري وأغفو بدعة وسلام على لمساتها الحنون·