أنت هنا

قراءة كتاب التوأم المفقود

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
التوأم المفقود

التوأم المفقود

رواية "التوأم المفقود" هي الراوية الثانية في رصيد الكاتب العراقي سليم مطر التي صدرت عام 2001 عم المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت؛ تحكي الرواية عن تجوال شاب عراقي منفي يغادر جنيف بحثا عن (توأمه المفقود) ويقوده بحثه العجيب إلى متاهات نفسية وروحانية لم ت

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 3
بعد إتقاني الفرنسية رحت أدرس نهاراً في معهد التوثيق وفي المساء زاولت مختلف الأشغال البائسة في التنظيف والمطاعم· كنت أقاوم كل يوم وكل ساعة مشاعر الخيبة واليأس مثل وحش محاصر ينهش حتى الحجر من أجل الخلاص·
 
بعد سنوات طويلة من ضنك وتوحد وكفاح وحشي من أجل البقاء والإستمرار في جنيف، هذه القرية العالمية الغريبة الأطوار، تمكنت من الحصول على الجنسية السويسرية ومعها وظيفة نظيفة في مكتبة متحف الفن والتاريخ·
 
أهم سبب لقدرتي على النجاح في كفاحي هذا، أني تمكنت من التخلص من أكبر عائقين في حياتي: ماضيّ المعتم وأبناء جلدتي· كنت اناضل في كل ساعة وفي كل يوم لكي أنقطع تماماً عن كل ما يربطني ويذكرني بماضيّ الشرقي التعس، وأنا أردد شعار المهاجرين الأوربيين الأوائل إلى العالم الأمريكي الجديد: أينما توجد الحرية، هناك وطني لكي أندمج في هذه الحياة الأوربية التي كنت أحلم بها منذ صباي اخترت جميع اصدقائي من الأوربيين أو من قارة أمريكا· تعلمت الرقص الحديث في إحدى المدارس وتعودت على المراقص والمعارض والمسارح ودار الأوبرا· رحت أغصب نفسي على أن يكون حتى تفكيري يجري باللغة الفرنسية· بلغ نجاحي ذروته عندما استيقظت ذات صباح واكتشفت بأني قد حلمت باللغة الفرنسية!
 
الشيء الوحيد الذي لم أجرؤ أن اتخلى عنه هو اسمي· بالحقيقة أني رغبت بشدة تبديله باسم اوربي لكني لم أتجرأ لأسباب مبهمة لم استطع تحديدها· أسباب مزيجة، منها خجلي من نفسي وتمسكي ببعض الكبرياء أمام السويسريين وخشيتي من سخرية أبناء جلدتي· أمور عديدة قد تبدو تافهة لكنها كانت كفيلة بأن تردعني عن مشروعي· مع الزمن أتقنت طريقة الإلتفاف على تلك الأسئلة المقرفة عن وطني السابق وعن ديني· بل إني بلغت حداً مقبولاً من القدرة على التحكم بأعصابي والابتسام أمام كآبة ذلك السؤال المكرر كلما رآني أحدهم احتسي الكحول: ها أنت مسلم وتتناول الكحول !؟ ظلّ جوابي الدائم هو الابتسام وتغيير الموضوع بصورة دبلوماسية مؤدبة·
 
أثناء سنوات الثمانينات ظلت تواجهني يومياً مشكلة أخبار الحرب الدائرة بين بلادي وإيران· أخبار الكوارث ومشاهد الدمار والمسالخ البشرية كانت رغماً عني تثير فيّ الكآبة والقرف· كنت أفعل المستحيل لكي أفلسف الأمور وأنا أردد مع نفسي جميع اللعنات وتلك العبارة المعروفة: عسى نارهم تأكل حطبهم، وانا أبصق على الأرض· كم من الليالي بينما أنا في عز ثمالتي وانتشائي وسط الأصحاب والموسيقى والأنوار، من دون أي سبب واضح تجتاحني موجات من الكآبة ومشاعر الإثم· تلتف الأحزان حول صدري كشرنقة عنكبوت، ثم تجتاحني رغبة جياشة بالبكاء فأغرق بالثمالة وأطلق العنان لنفسي رقصاً جنونياً حتى يتفككك بدني ويتبعثر مرتعشاً كطير منحور·
 
آه منك يا بلادي لا أتذكر منك غير التعب والوجع والإذلال· لم أتذوق فيك براءة طفولة ولا طيش مراهقة ولا حلم شباب· هجرتك ولم آخذ منك حتى حفنة تراب· رغم هذا فأنت ورائي ورائي، بذكرياتك الحزينة وأبنائك المشاكسين وأخبار كوارثك ورعبك الذي لا ينتهي· بلغ بي الأمر أني طالما تمنيــت وبصورة واقعية وصادقة بأن يكتشف الطب ذات يوم طريقة ممكنة لإجراء عملية اقتلاع لكل الخلايا الخازنة للماضي· لكنت اقتلعتها كلها عن بكرة أبيها· سوف لن أبقي إلاّ على خلايا الحاضر والمستقبل· سأكون مرتاح الضمير بالتخلص من كل ما يتعلق بهويتي، حتى اسمي وشكلي· سأعمل المستحيل لكي أغير لون جلدي وشعري وعيوني، ولتحل اللعنة على ماضيّ وعلى بلادي وعلى أهلي وأصحابي وذكرياتي حتى الجميل النادر فيها، وعلى الشرق كله·
 
قبل أن تصدروا حكمكم علي، أود أن أعترف لكم بأني قد تغيرت الآن· بعد خوضي لتلك التجربة العجيبة التي سوف أحدثكم عنها ولقائي بشفيعي الحكيم، أدرك بأني كنت ساذجاً ورومانسياً وأحادي النظرة في أحكامي· إن نقمتي على ماضيّ وعلى بلادي جعلتني أتعامى عن مساوئ حاضري· إن تصديقي الطفولي لأحلام الحداثة والتطور جعلني اتقبل مظالم هذه المدينة على أنها أمر طبيعي وعابر، وإن العيب فيّ انا لأني لم أتمكن من تفهم واكتشاف محاسنها· كنت أخفف عن اوجاعي بتدعيم الآمال الكبيرة بأني قريباً سوف أنجح بمساعيّ واخلق حياة جديدة أكثر انسانية في مجتمع عادل طيب يتفهمني ويتبناني ويعوضني عن مظالم مجتمعي السابق·
 
احتجت الى سنوات طويلة وخيبات ثم خيبات لكي أدرك أن هذه الحضارة ليس جنة الخلد وأن البشر فيها يبقون بشراً لهم محاسنهم وعيوبهم· إذا كان لكل جماعة بشرية محاسنها ومساوئها، فإن محاسن اهل جنيف تتمثل بميلهم إلى المسالمة وتعلقهم الإيجابي بروح الإتقان والنظافة ورغبتهم الصادقة بالتضامن مع المحتاج· لكن أبشع عيوبهم تكمن في انغلاقهم الاجتماعي وعدائهم الطفولي النزق لكل إنسان له بعض الطموح والشعور بالرفعة، خصوصاً إذا كان أجنبياً ولاجئاً· إن كنت منذ البدء قوياً وكبيراً فهم معك لكي تدوم عظمتك وتنمو، لهذا فإن جنيف ظلت ملجأً لكل أغنياء وأقوياء العالم· لكنك إن أتيتهم فقيراً ضعيفاً فيجب عليك أن تبقى هكذا، وهم يسندوك ويتضامنون معك مادمت ضعيفا معاقاً مريضاً بائساً مشرداً سكيراً مشاكساً مدمناً·· أي باختصار أن تكون محتاجًا لعطفهم ونصحهم ورعايتهم· أما أن تكون طامحاً للخلاص من ضعفك وراغباً بالتطور خصوصاً في مجال العلم والمعرفة، فهذا يعني انك تبتغي بكل وقاحة أن تزيحهم عن دربك، وتحاول أن تتساوى معهم· في هذه الحالة فإنهم لا يتخلون عنك فحسب، بل يفعلون المستحيل لكي يبقوك في وضعك الأول: بائساً ضعيفاً محتاجاً· وسلاحهم الأكبر والأعظم هو التجاهل والاستخفاف· نعم سلاح التجاهل والاستخفاف الذي يفوق بشراسته ومفعوله أي سلاح معروف· إنه كالسم البطيء يسري فيك ويفقدك قواك وأعصابك وكرامتك ولا يترك لك في الآخر سوى واحدا من خيارين: إما الهرب أو الاستسلام·

الصفحات