أنت هنا

قراءة كتاب التوأم المفقود

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
التوأم المفقود

التوأم المفقود

رواية "التوأم المفقود" هي الراوية الثانية في رصيد الكاتب العراقي سليم مطر التي صدرت عام 2001 عم المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت؛ تحكي الرواية عن تجوال شاب عراقي منفي يغادر جنيف بحثا عن (توأمه المفقود) ويقوده بحثه العجيب إلى متاهات نفسية وروحانية لم ت

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 9
ـ أرجوك أيتها السيدة كفي عن مزاحك·· بدأت تبالغين وتلحّين·· غيري النغمة ودعينا من الموضوع·· الآن خبريني صراحة من أنت؟
 
ـ أوه يا إلهي، متى أتخلص من هذه المشكلة التي مللت تكرارها معك منذ الأزل· اسمع يا عزيزي يا رجلي يا سيدي، أنت لايمكنك أن تحيا أو تبقى في أي مكان أو زمان من دوني أنا· حكاية وجودك محض أحلام تستمد حياتها من أحلامي أنا· أكررها عليك، أنت بكل بساطة يا عزيزي غير موجود·· نعم غير موجود إلا كحلم وذكريات في رأسي وفي قارورتي·· جنيف وتوأمك وزوجتك التي تعيش المخاض وحياتك كلها أحلام بأحلام·· أنت رجل أحلامي، وعندما أنام أنا تستيقظ أنت في رأسي··
 
ما هذا الهراء الذي تقوله هذه السيدة الغريبة· من المعقول أنها ثملة· لم أتعود تقبل مثل هذه القسوة في المزاح· لكن يا إلهي لماذا ينتابني مثل هذا الإحساس بالرعب· كيف تسنى لها أن تؤثر عليّ بسخريتها الطفولية هذه· يكفيني أن أبادلها السخرية أو أتجاهلها حتى ينتهي الأمر· أمن المعقول أن ما يجرحني في كلامها هو إحساسي بأنه يحوي بعضاً من الحقيقة، أو ربما كل الحقيقة· مستحيل·· أنا إنسان حي ولي زوجتي التي تنتظرني وتوأمي الذي يقلقني·· أنا موجود ولي ماض مثلما لي حاضر، وأكبر دليل على حقيقة حياتي ووجودي أني الآن أتذكر ماضيّ الذي عشته منذ ميلادي حتى هربي من الوطن قبل أعوام واعوام· صحيح أني حاولت بكل حماس وإصرار على قطع كل جذوري عن ذلك الماضي اللعين، إلا أني الآن أعترف بأني قد هزمت تماماً· لا زالت جذوري منغرسة في صلصال بلادي الأحمر· بل إني أعترف الآن بأن سنوات الغربة، ومن دون علمي، قد عمقت تلك الجذور وسقتها وجعلتها تمتد في كل تلافيف الماضي وخبايا التاريخ ومجاهيل الذكريات، حتى راحت تبدو لي حياتي الآن وكأنها أغصان متفرعة من شجرة الماضي·· لا شيء يشدني إلى حاضري سوى ماضيّ، ولا شيء يشدني إلى مستقبلي سوى ماضيّ أيضاً، فكيف يا إلهي تريد هذه السيدة أن تقنعني بأن كل ماضيّ ما هو إلا أحلام بأحلام ··
 
ـ يا سيدتي أرجوك أنا تعبان ونار الحنين تحرق حناياي وما عادت روحي تمتلك الصبر· احس نفسي سفينة بلا ربان وسط أمواج عاصفة وغيوم كالحة· آه أيتها الجليلة، أحلّفك بهذا الوجود، بالسماء والجبل والبحيرة والفجر الساطع، بعشقنا المجبول بالأعوام، ساعديني، أنيري لي دربي، دليني على بر الأمان·· أنا تعبان·· أنا تعبان··
 
لاحت قطرات دمع تتوهج في مقلتيها، بينما أصابعها تمسد شعري وتهمس بأغنية حزينة عن زمن يمضي وأسراب طيور لن تعود· أشعة الفجر والتماعات البحيرة والسماء تعكس على جسدها الحنطي المبلول ألواناً فضية خضراء زرقاء نحاسية· كفي تحفر الأرض وتكور كتلاً ممزوجة برمل وطين وحصاء وإثل، وعندما أضع رأسي على صدرها يفوح عبق الأرض ويمتلئ فمي بطعم طين· أتذكر أطيان بلادي· عادت إليّ ذكريات طفولتي وانا العب بالطين في مستنقعات بغداد وعلى شواطئ دجلة· الطين الطين الطين، كل شيء في بلادي من طين، البيوت والدروب والمطر والهواء والتاريخ··
 
دون أن أفتح عيني أجد نفسي أهمس في أذنها:
 
ـ يا سيدة القارورة·· ياسيدتي ومالكة روحي وتاريخي·· اعذريني عن النسيان، أعترف لك الآن·· أنت بيتي·· أنت وطني·· أنت حلمي·· أنت ماضيّ وحاضري·· أنت الروح الحاملة لحيواتي السابقة واللاحقة·· أنت سر وجودي وخلودي وأحلامي الأبدية· خذيني·· خذيني أينما تشائين··
 
تجتاحني أحاسيس باختلال الوزن كأني أعوم على جسدها· أتمسك بالأرض التي تميد بي كحبات هواء وماء بلا ملمس او كيان· قوة غريبة تشدني إلى جميع الأنحاء ستمزقني إلى أشلاء مثل مركب تعصف به ريح· حينهاً أدرك في أعماقي أن الفعل الوحيد الذي يمكن القيام به، أن أفتح عيني·· نعم هكذا قررت من دون تردد أن أفتح عيني لأرى الحقيقية كما هي·· نعم كما هي حتى لو كانت وهماً وحلماً·
 
عندما فتحتهما لم أر ، بل عشت كما لم أعش من قبل:
 
أجد نفسي أطوف في سيدتي· هي البحيرة الفياضة والكون المتفجر·· نعم هي بكل تفاصيلها مرسومة بخطوط من أنوار وألوان وانفجارات بركانية·· شعرها شموس ووجها سماوات ونهديها جبال وجسدها أمواج بحيرة فضية· من عينيها ينبثق وهج ساطع يعم الوجود ومعه تهتز الجبال وتتهشم السماء كمرايا· تفيض البحيرة بأمواج تمتزج بشظايا أنوار تنتثر في أعالي سماوات· يستحيل الكون إلى احتفالات اسطورية من شلالات بيضاء زرقاء خضراء ذهبية لأنوار ومياه وثلوج وغابات جبلية··
 
في اللحظات الأخيرة، وأنا أغرق في بحيرة سيدة القارورة، وأذوب كالثلج في أحضان كونها، وتتفكك أعضائي بإرهاصاتها المتفجرة، وتتبخر انفاسي بشهقاتها الملتهبة، وتبدو لي حياتي مجرد أحلام بأحلام، ولا شيء فيها غير وهم وخيال·· رغم ذلك، في أعماقي يقين ما بعده يقين، أن لي ماض من دم وطين وتاريخ أحمق طويل ومستقبل سيولد بكل يقين··

الصفحات