رواية "التوأم المفقود" هي الراوية الثانية في رصيد الكاتب العراقي سليم مطر التي صدرت عام 2001 عم المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت؛ تحكي الرواية عن تجوال شاب عراقي منفي يغادر جنيف بحثا عن (توأمه المفقود) ويقوده بحثه العجيب إلى متاهات نفسية وروحانية لم ت
أنت هنا
قراءة كتاب التوأم المفقود
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 2
هنا في جنيف بدأت أنسى توأمي مع اندماجي بالحياة وانسلاخي عن ماضيّ الشاحب· رغم ذلك بقيت على اتصال سري متقطع بهذا التوأم الذي ظل يأتيني في أحلامي· سبق لي قبل ذلك، من أجل إرضاء فضولي، أن اتصلت بأختي وطلبت منها أن تبحث مع أمي وإخوتي الكبار إن كانوا يعرفون شيئاً عن ظروف ميلادي· ربما كان لي توأم وإنفصل عني في ظروف غامضة· أنا كما تعرفون مثل الكثير من العراقيين أجهل تاريخ ميلادي الحقيقي· كما يقال، أنا من جيل(1ـ7)· أي من أولئك الذين شملتهم رحمة الحكومة عندما قررت أوائل الستينات توحيد تواريخ ميلاد جميع العراقيين في يوم واحد هو الأول من تموز باعتباره وسط السنة· شاء القدر أن يكون يوم شؤم تاريخي، لأنه نفس يوم موت (تموز) إله الخصب والحياة·
كم تقت هنا في أوربا لمعرفة يوم ميلادي الحقيقي من أجل معرفة برجي· المعلومة الوحيدة التي عرفتها من أهلي بأني قد ولدت في أوائل ربيع (1956) وفي فجر يوم جمعة· لهذا فإن (جمعة) كان اسمي العائلي الخاص· هذا يعني كما يقولون بأني سيد (واشوّر) ومنذور للإمام العباس (أبو الراس الحار)· أي أنا مقدس والله يعاقب من يؤذيني· كم سمعتهم يتحدثون عن الناس الذين (شوّرت) بهم وعاقبتهم بالمرض والمصائب لأنهم آذوني!
لكن تاريخ ميلادي لم يكن يهمني قدر ما كان يهمني معرفة ظروف ميلادي وحقيقة توأمي· عندما طلبت من أختي الاستفسار عن هذا السر، أنكرت أمي مثل هذا الأمر· بعد الحاح قالت إنها لا تذكر جيداً، فهي قد أنجبت ثلاثة عشر طفلاً، مات منهم خمسة في سن الرضاعة· أضافت بعد تردد طويل، بأنها تعتقد ربما قد ولدت توأماً في ذلك الطوفان الذي حدث في نفس عام ميلادي واجتاح بغداد وضاع أحدهما بعد ان جرفت سلته المياه· لكن أحد أبناء عمتي الذي التقيته هنا في اوربا، والذي يكبرني ببضع سنوات أباح لي بأحد أسرار العشيرة الذي كان يتهامس به الجميع من دون أن يبلغ العائلة: أن لي أخا توأماً انفصل عني بعد بضعة أشهر من ولادتنا· البعض يقول أن أهلي باعوه إلى عائلة غنية تبحث عن طفل تتبناه· والبعض يقول أنه ضاع أثناء الطوفان وانقذته احدى العوائل· رغم أن أهلي عرفوا بالعائلة إلا أنهم وافقوا على بقاء الطفل لديهم ماداموا هم الذين أنقذوه، وبقي الأمر طي الكتمان·
عندما سمعت بهذه الحكاية طرحت عشرات الأسئلة من دون أن احصل على جواب: لماذا بقي الأمر مخبئاً عني وعن إخوتي·· لماذا انقطعت أخبار توأمي ولم تحافظ العائلة على العلاقة·· وتوأمي هل اكتشف الحقيقة·· ولماذا لم يحاول الاتصال بي·· ربما هو مثلي يجهل الحقيقة·· أو ربما الأمر كله وهم مختلق ومحض إشاعات مغرضة ضد عائلتي·
أسئلة كثيرة لم أستطع أن أجد لها سوى تكهنات غير مؤكدة· مشاغل الحياة ورغبتي بالانقطاع التام عن بلادي جعلتني أتردد كثيراً في التوغل بالتحقيق، وتركت الأمر معلقاً حتى إشعار آخر·
هاهو توأمي المجهول ينبثق فجأة من أعماق النسيان وبصورة لم تخطر على البال· في هذه الليلة الشتوية الكئيبة أتاني ليرعبني بصوته المستغيث· انتبهت الى السماعة لم تكن بيدي، فمن أين أتاني الصوت إذن! رأسي كان مستلقياً بجانب السماعة بعد أن أسقطت الهاتف معي على الأرض· أمسكتها لأقربها مني· من دون انتباه سحبت السلك أيضاً الذي أسقط معه كتباً وأدوات فوقي· شعرت بنيران قد شبت في عيني وامتلأ رأسي بنجوم وانطلقت مني صرخة غضب مكتومة·
لكن نداءات الاستغاثة صمتت فجأة· عندما قربت مني السماعة كانت باردة وليس فيها غير وشوشة متقطعة امتزجت بدقات قلبي وبدت كأنها طبول بدائية·
وجدت نفسي أرتدي ثيابي بسرعة وأترك الدار· استغربت أن شوارع حينا (الكهوف ـ Les Grottes ) القريب من محطة جنيف، كانت تضج بالحركة، مع أن الساعة تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل· رغم البرد كانت هناك بعض النوافذ مفتوحة وأخرى مضاءة بشموع· جماعات متفرقة هنا وهناك تتداول أحاديث قلقة تتردد فيها كلمات: الحرب·· العراق·· الكويت·· أمريكا··
حينها تذكرت اننا في ليلة (17 كانون الثاني) موعد تنفيذ الأمريكيين لهجومهم· قلت إذن قد اندلعت الحرب··
الحرب الحرب الحرب·· رحت العن الحرب ومن يهتم بالحرب· كنت في تلك الأعوام أعيش حالة انقطاع تام عن بلادي وعن كل ما يمكن أن يمتني بها بصلة، حتى لغتها وأغانيها وطعامها· لكي أنساها تجنبت ليس العراقيين وحدهم بل كل من يتكلم العربية وكل من ينتمي إلى الشرق· أصبحت حياتي بكاملها أوربية· إكتملت المسألة عندما اقترنت بامرأة طيبة من نفس مدينة جنيف·
بالحقيقة أني منذ أن وصلت جنيف خريف 1981، قررت أن أبدأ حياة جديدة أحقق فيها أحلامي الشخصية بعد أن فقدت أملي بأحلامي الثورية الحمقاء· منذاليوم الأول وحال تقديمي لطلب اللجوء سجلت في مدرسة اللغة·بدأت تعلم الفرنسية متخلياً من دون أسف عن كل ما يذكرني باللغة العربية من كتب وصحف وأغانٍ· في السنوات الأولى أبقيت على بعض العلاقات مع أبناء وطني، لكني سرعان ما قطعتها تماماً يوم أدركت بأنهم لا يجلبون لي غير التعاسة والسأم والحسد والنميمة والغيرة والأحقاد التي لا تنتهي· بلغت قناعة مطلقة بأن الناس المنكسرين المهزومين لا يرتضون أبداً ان ينجح فرد منهم بالتخلص من انكساره وهزيمته، لأنه بذلك يفضح ضعفهم وانعدام قدرتهم على الخلاص· تيقنت بأن بقائي بينهم يعني ديمومة بقائي في الذل والأحقاد·