قراءة كتاب التوأم المفقود

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
التوأم المفقود

التوأم المفقود

رواية "التوأم المفقود" هي الراوية الثانية في رصيد الكاتب العراقي سليم مطر التي صدرت عام 2001 عم المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت؛ تحكي الرواية عن تجوال شاب عراقي منفي يغادر جنيف بحثا عن (توأمه المفقود) ويقوده بحثه العجيب إلى متاهات نفسية وروحانية لم ت

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 4
لهذا فأن الغالبية الساحقة من الأجانب، إما ان ينجحوا باتخاذ قرار الهرب بعد أن تمتلئ أرواحهم بالجروح والقروح، أو أنهم يضطرون للاستسلام وقبول عملية التدجين اليومية المستمرة على قدم وساق في كل المرافق والمجالات: مؤسسات المساعدة والدوائر والشركات والشوارع والمطاعم والمحلات وفي كل مرافق الحياة· بل حتى الأشخاص الذين كرسوا حياتهم من أجل القضايا الإنسانية والدفاع عن الأجانب، من دون وعي منهم يرتاحون لك ويعطفون عليك ما دمت تشكي وتبكي· لكنهم سرعان ما ينكفئون مثل السلاحف المرتعبة لمجرد أن يشعروا بك طموحاً ومؤهلاً للتساوي معهم ولا تبتغي منهم غير الحوار والصداقة· بل الأنكى والأتعس أن الأجانب أنفسهم الذين ارتضوا التدجين يمارسون بدورهم وبدرجة أكثر بشاعة ووقاحة هذا السلوك الاستعلائي الانعزالي الحسود الحقود وخصوصاً ضد أبناء جلدتهم· إنها بحق ماكنة جهنمية جبارة من الانمساخ المؤدب والمغلف بورق الألمنيوم الملطخ بشعارات الحب والشفقة والتضامن···
 
إن الأجنبي المقبول هو الأجنبي الذي يوافق على التخلي عن كل طموحاته الشخصية المشروعة ويرتضي بالمستوى الأدنى من الحياة الثقافية والمعاشية والاجتماعية· إذا كان رساماً يصبح صباغًا، وإذا كان استاذاً جامعيا يصبح حاضنا للإطفال·· لكن لحسن الحظ هنالك دائماً أقلية صغيرة تنجح ببلوغ بعضٍ من طموحاتها من خلال الإصرار الجنوني والكفاح الوحشي الذي بكل يقين قد تخللته الكثير من التنازلات والأكاذيب وعمليات الاحتيال والإذلال·
 
لكي أكون عادلاً في حكمي على هذا الشعب الذي أعيش في كنفه منذ اكثر من عشرين عاماً، اعترف لكم بأني لست أقل تعقيداً منه· إني كثيرا ما أصرح علانية بأن سر استمراري في هذه المدينة يكمن في كوني معقداً مثل أناسها· أدرك جيداً بأن نفسي مثخنة بجراح وخيبات تكفي لتعقيد جبل من صخر، فكيف إذن بكائن طري حساس مثلي·
 
إني ورثت من شعبي، وبصورة أشد تطرفاً، أهم صفة معروفة فيه: المغالاة بتقلب المشاعر ايجاباً وسلباً· تراني كثيراً ما أبدي ضروباً من الأدب والتسامح إلى حد أن أدع أي من السفهاء يدوس عليّ بدون رحمة· لكني ما إن أنتبه إلى نفسي متأخراً، حتى أثور بصورة طائشة تؤدي عادة إلى ضياع حقي· هذه الحساسية الشديدة فاقمت من ثنائيتي وانفصام شخصيتي وتقلبها الشديد بين حزن وفرح، انفتاح وانطواء، اتزان وعبث، حكمة وطيش، بصورة حولت حياتي إلى جحيم من قلق وتردد وثورة على الذات وعلى الكون بأجمعه·
 
خلاصة الكلام أني معقد في مدينة معقدة، وكلانا نخوض صراعاً وحشياً ضد ذواتنا وضد بعضنا البعض، تحت ستار زائف من الوقار والانفتاح والثقة المتبادلة!
 
خلال أعوام الثمانينات بدوت واثقاً من نجاحي بصورة كاملة بالتخلص من كل ذكريات بلادي وماضيّ وكل ما يمتني بالشرق· لكن هاهي الآن فجأة تحل علي أخبار الحرب وما أطلقوا عليه بأزمة الخليج لكي تلخبط عليّ جهود أعوامي وتفرض على حياتي تلك الذكريات المطمورة· هاهي بلادي اللعينة كالطوفان تقتحم سدودي بكل فجاجة وابتذال حتى غدى من المستحيل التنصل عن مواجهتها· من حنقي وغضبي كنت رغماً عني أصرخ: مازلت ورائي يا وطن الخيبة·· ما زلت ورائي ايها الطائش الخؤون··
 
حينها قررت أن أشحذ كل أسلحة النسيان وعدم المبالاة من أجل مواجهة هذه الاجتياح الهمجي لقطعان ماضيّ الوحشي· لكن الهجوم كان كاسحاً ولم أستطع صده بسهولة· بلادي تواجهني في كل مكان· في الصحف والتلفزيون والشوارع وحتى على ألسنة الاطفال والسكارى والمجانين· بل بدأت تواجهني بعض المواقف لم أعرفها من قبل: بعد فترة من اندلاع الأزمة، كنت أنتظر المصعد إلى شقتنا، فمرت بي جارتنا في العمارة مع ابنها· بين ضجيج ضربات حذائها على الدرجات سمعت طفلها يسألها بصوت خائف:
 
ـ صحيح يا ماما، هذا السيد من بلد صدام؟
 
ارتجفت وسخرت وبصقت وضربت الأرض بقدمي· هكذا بدأت اللعينة بلادي تجتاحني في أكثر مواقعي حساسية: الكرامة! آه من الكرامة·· يمكنني أن أتحمل كل شيء إلا أن يهين الآخرون كرامتي ظلماً وجبنا، وهاهي بلادي التعسة تضرب على وتر كرامتي وتضعني في مواقف محرجة بين السكوت الذليل والتمرد الأحمق· لكني قررت أن أقاوم·· أن أتشبث بالحكمة الهندية المعروفة: (لا أرى ولا أسمع ولا أتكلم)· رحت أسخر وأنا أرى بلادي تصبح الهاجس الأول لكل الناس بحيث أن الكثيرين راحوا يصلّون ويضيئون الشموع من أجل السلام لها، ليس حباً بها بل حباً بالكرة الأرضية التي يعتقدون أن سلامتها ارتبطت بسلامة بلادي· يالها من مهزلة·· هكذا رحت أصرخ مع نفســـي·
 
من أجل أن أقاوم، رحت أستجمع ليل نهار ذكريات ماضيّ الأسود· أهيل الغبار عن حقدي الدفين· أردد العهود التي كنت قد قطعتها على نفسي عندما تركت الشرق وقررت الاستقرار في أوربا: وداعاً يا بلاد الخيبة·· وداعاً يا شرق الكوابيس·· وداعاً ايها الماضي المقيت·· إني راحل ولن اعود·· ولك ألف وألف وداع··

الصفحات