رواية "التوأم المفقود" هي الراوية الثانية في رصيد الكاتب العراقي سليم مطر التي صدرت عام 2001 عم المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت؛ تحكي الرواية عن تجوال شاب عراقي منفي يغادر جنيف بحثا عن (توأمه المفقود) ويقوده بحثه العجيب إلى متاهات نفسية وروحانية لم ت
قراءة كتاب التوأم المفقود
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 7
في أعوام طفولتي الأولى عندما كنت أنام ليلاً مع عائلتي في باحة دارنا الطينية، أمضي الساعات سارحاً بين نجوم متلألئة في سماء بغداد، حالماً بالملاك جبرائيل يأتيني برسالة النبوة، لتصير عذاباتي فرحاً، وإذلالي كبرياءً، وغضبي عطفاً ورحمة لأهلي وللناس أجمعين·
من جديد يصدح صوتها نحاسياً في الأرجاء كأنه يشع مع أنوار الفجر:
ـ انهض يا غريب اراك ساكناً حزيناً·· هيا، انفض عنك النوم واللوم·· تعال نغتسل بمياه الفجر والحياة·· النهار آت والربيع في انتظار·· تعال يا عزيزي تعال··
دون أن أفتح عيني أراها تقترب حاملة بين كفيها قارورة خشبية حمراء· ترتسم عليها ابتسامة مفعمة بحنان· أتذكر(إيمان) معبودة صباي، ابنة الباشوات وحفيدة المماليك والأمراء، في قصر شامخ وحدائق ليمون وزهور ونبقة وافرة تظلل الجيران· طيلة سنوات الصبا كنت بالحلم أكافح فقري وجبروت مستحيل جاثم على حبي، وأنتظر اليوم الذي سأمتلك به قلب (إيمان)· أمضي الليالي وحيداً في حانوتنا الطيني المسكون ببؤس وعتمة وهوام، وأنا أحلم بمشهد سيحترق فيه قصر معبودتي لكي أخاطر بحياتي لإنقاذها من براثن نيران· كما في الأفلام، بعد أن أجتاز مصاعب وأخطاراً، أبلغ بحبيبتي الخلاص· بين أغصان زهور وثمار ليمون أغسل وجهها بمياه ساقية، وما أن تفتح عينيها حتى أتهاوى أنا محتضراً بجراحي بين أحضان معبودتي وهي تعانقني صارخة: حبيبي حبيبي غريب ثم تحنو بوجهها الفاكهي على وجهي الطيني وتحط بثغرها على ثغري حتى يشهق صدري بأنفاس الحياة· ثم كالعادة ينتهي المشهد بعناقنا وسط حمرة لهيب قصر محترق، وتراتيل حزينة من موسيقى واستغاثات··
الآن رغم رثائي لتلك الأحلام، كم أتمنى بكل أعماقي لو أني احتفظت ببعض منها، عسى أن تعينني على تحمل هذا الانتظار· دون أن افتح عيني أرى فوقي وجهاً أنثوياً: عينان عسليتان متوهجتان بضياء فجر وشعر حني منثور وثغر باسم بمويجات وشفاه متوردة بشفق· وجه قديسة مرسوم على لوحة الوجود·
أجهل هوية هذه المرأة· انبثقت فجأة من البحيرة مثل حورية غامضة· لكن وجهها مألوف كأني أعرفها منذ أعوام وأعوام!
ـ من انت أيتها السيدة؟
تنفرج شفتيها بكلمات تذوب في زقزقة عصافير تمرق خاطفة· من خلف قمم الجبال تطل شمس متبرجة عبر حجاب غيومها· تسطع بخطوط ذهبية نحاسية كسيف لهب يخترق البحيرة من أعلاها إلى أسفلها ويلتحم بقدمي الغارقتين· تغور كفي في أطيان ورمال وحصى الجرف· أحس بنوع من الخدر واللامبالاة مثل طفل آمن في أحضان حنونة· أهمس لها:
ـ إني لا أعرفك أيتها السيدة·· لكني أشعر كأني اتتظرك منذ زمن طويل·· كما ترين فإني متعب حزين أبحث عمن يعينني في محنتي··
بتدرج متصاعد تتثائب الطبيعة من حولي بأغنية فجر ربيعي إذ يمتزج بتناغم إلهي عزف ريح وإيقاع مويجات وزقزقة عصافير ونقيق بط وضفادع مع ضجيج خافت بعيد لمدينة جنيف التي بدأت تصحو وتتمطى· تبتسم السيدة الأليفة بحنان:
ـ انهض وتيقظ ياعزيزي·· انتهى موسم غيابك في عوالم النسيان·· هاهو ربيع الماضي يهلّ وتتفتح براعم الذكريات·· قم ياعزيزي يا غريب سأدلك على توأمك المفقود··
أستغرب كلامها· أتكون ثملة معتوهة قد هدها عالم الليل الكئيب· أتت لتمارس معي نزواتها العابثة·
ـ اسمعي أيتها السيدة، أنا إنسان قد اختار النسيان· حتى لو كان لي ماضٍ، لكنه صار منسياً· لي الآن حاضر أعيشه لا يمكنني التخلي عنه· ولي امرأة ستهبني طفلاً طيباً يحفظ لي اسمي ونسلي· أما حكاية التوأم، فهي لن تجعلني أبداً اتخلى عن حاضري بحثاً عن ماض قد اندثر·
تنظرني بحنان وتكلمني بصوت نحاسي رنان:
ـ إني أعرف حقيقة عذاباتك يا غريب·· تباً لتلك النيران المتأججة في أعماقك، حطبها ذكريات ودخانها أشواق· بعد أعوام طويلة من التمرد واحلام النسيان، ها أنت رغماً عنك تدرك في أعماقك بأنك لا محال مجبر على كسر قيود ترددك ومكافحة مخاوفك· شفائك من هذه المعاناة يكمن في عثورك على توأمك·· تعال يا عزيزي أنهض وجرب الترحال في عوالم ماضيك الذي لم ينته لأنه لا زال هنا في أعماقي أنا·· وأنت فيه··