قراءة كتاب التوأم المفقود

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
التوأم المفقود

التوأم المفقود

رواية "التوأم المفقود" هي الراوية الثانية في رصيد الكاتب العراقي سليم مطر التي صدرت عام 2001 عم المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت؛ تحكي الرواية عن تجوال شاب عراقي منفي يغادر جنيف بحثا عن (توأمه المفقود) ويقوده بحثه العجيب إلى متاهات نفسية وروحانية لم ت

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 8
أستغرب كلامها العابث الواثق· تخاطبني كأنها حقاً سيدتي ومالكة مصيري:
 
ـ أيتها السيدة الغريبة، إني أجهل مبتغاك·· إن كنت تودين حقاً مساعدتي فاطردي عني شبح توأمي الذي حول حياتي إلى جحيم· خلصيني من قلقي وامنحيني الأمان·· آه لو تعلمين كم أخشى الذكريات·· حتى وقت قريب كنت على يقين بأن حياتي الماضية صارت بعيدة بعيدة، كأني فارقتها منذ قرون أو حقب مجهولة، وربما عشتها في حياة سابقة منسية· حتى أني رحت أتساءل في الأعوام الأخيرة: هل كانت فعلاً حياتي أنا، أم أني توهمتها واختلقتها في أحلامي؟
 
تهز رأسها وهي تمسد شعري بحنو وتهكم، كأني طفلها:
 
ـ اسمع يا غريب، ليس هنالك فائدة من إصرارك على النسيان·· هل تنكر بأنك أنت نفسك جزء من الذكريات؟
 
ألوذ بالصمت ولا أدري كيف أجيبها· لا أفهم مقصدها· سئمت لعبتها العابثة· أفكر أن أختصر اللعبة وأطلب منها الإقتراب مني ومشاركتي لذة الوجود من دون لف ودوران· لكني أتردد لسبب لم أفهم كنهه· أستغرب أني لم أغضب من عبثها وكأني سبق لي قد تعودت عليه وألفته· أحاول أن أتجاهلها وأتحاشى التفاصيل معها· أكبت رغبة جياشة أن أعترف بما يجول في أعماقي وأشركها بهمومي· إني حقاً أعاني من عودة أحلامي القديمة التي ظننتها قد ماتت واندثرت في مجاهيل الزمان· لكنها الآن تستفيق فجأة من غيبوبتها الطويلة· عادت من جديد تلك الأحلام الأولى عندما تركت بلادي على أمل العودة إليها ثائراً محرراً· أن أدخلها بجواز مزور دون الكشف عن هويتي· سألتقي بعائلتي بصورة سرية، إخوتي الذين تركتهم صغاراً صاروا الآن أمهات وآباء لأولاد وبنات لا يحصون· كان المهم عندي أن أزور مدينتي بغداد· أتسكع في شوارعها· أعود إلى حارات فتوتي· كم حلمت أن أدخل إلى المدارس التي أمضيت طفولتي وصباي فيها· كنت سأجول بين صفوفها وساحاتها المكتضة لعلّي أعثر على أصدقائي القدامى·· لعلهم ما زالوا صغاراً لم يخطفهم الزمان· سأقرأ معهم (دار·· دور) وأنشد بحماس(لاحت رؤوس الحراب تلمع بين الروابي)· أمد يدي بكل طيبة خاطر إلى أستاذ هاشم، الملقب بـوحش الشاشة، ليمارس عليّ ساديته المعتادة ويضربني بالعصى على أصابعي· كنت سألج جميع مقاهي وحانات السعدون وأبي نواس لأفتش فيها عن ذكريات أولى اجتماعاتي السرية واولى جلسات السكر واولى ساعات الشباب وأحلام الثورة· أدخل سينمات بغداد واحدة واحدة لأستعيد روائحها العفنة وعتمتها الأمومية والساعات التي أمضيتها فيها مع الصحاب هرباً من المدرسة ومن سطوة الكبار· أتسكع في أزقة البتاوين والرشيد مع أصدقاء الصبى والشباب وأترك حنجرتي تصدح بلا خجل بأغاني شامي كابور وآهات عبد الحليم· ولا أنسى أن أمر أمام قصر معبودتي (إيمان) وأنظر عبر قضبان السياج لعلها لا زالت فتاة تلعب في الحديقة، ولا زالت عندما تراني تهبني كعادتها واحدة من ضحكاتها البريئة··
 
كنت سأعود وأعود لألهب قامة النسيان بسياط الحنين، وأنبش في خبايا الحاضر عن كنوز الذكريات· كم أنا تواق إلى أعوام وأحداث لا زالت جذوتها حية في أعماق كياني·· تواق لكل شيء فيها حتى لتوافهها وعذاباتها، حتى لصفعات والدي وساعات قلقي ورعبي ومذلتي·· تواق حتى إلى زنازين الأمن التي أمضيت صباي وأنا أبيع المأكولات بين اروقتها، لا زالت حية في أعماقي نفحات عفونتها الرائعة وعذابات المعتقلين وصرخاتهم الناطقة بالحنين·· آه من الحنين··
 
ــ إني ارفض لغتك الآمرة والساخرة أيتها السيدة·· إني لا أعرفك ولا اقبل تدخلك في شؤوني·· ماضيّ قد انتهى وتوأمي سيجد خلاصه بنفسه·· أرجوك دعيني عن حكاياتك، فأنا قلق تعبان وزوجتي تعاني المخاض··
 
لا تدعني أكمل· تقاطعني بصوت هامس يشوبه ضجر:
 
ـ كفاك عناداً يا عزيزي·· إنك تؤذي نفسك هكذا وتؤذيني معك· ألا تدرك بأنك مجبر على الرحيل معي·· هل نسيت أنك لا تملك حرية الاختيار لأنك بكل بساطة لا تمتلك خياراً آخر غير ما أقرره أنا لك· انظر حولك ياعزيزي، انتبه لنفسك ولا تغرق في الأحلام· بقايا النوم لا زالت تغوش رؤاك· اصح يا عزيزي، تعال نسبح تعال، الفجر يهلّ فكفنا عن السؤال·· تعال يا عزيزي تعال··
 
أريد أن أعترض وأحتج·· في اللحظة التي أفتح فيها فمي، اسمعها تقول:
 
ـ إعرف يا عزيزي، أني لا أسخر منك أبداً·· اسمع مني الحقيقة·· أقولها لك بكل صراحة واختصار: انت ياعزيزي غير موجود إلا هنا في رأسي·· ماضيك وحاضرك ومستقبلك وأحلامك كلها محفوظة هنا في قارورتي ·· حياتك حياتي وترحالك ترحالي·· هل فهمت؟
 
رغم أن كلامها يبدو مضحكاً وبلا معنى، إلا أني في أعماقي أحسه جاداً وحقيقياً حتى بدت كتلة من دخان كئابة تتكوم في صدري· أغرق بصمتي وأنا أفكر بأن أعثر على أي موضوع·· نعم أي موضوع·· المهم ان تتوقف هذه المعتوهة عن مهزلتها التي لا تثير فيّ سوى كآبة وقلق· لأحدثها مثلاً عن الفلم الذي شاهدته·· لكن ماهي قصته؟ غريب أني نسيتها· أتذكر أنه كان هناك صبي، نعم، صبي فقير وفتاة غنية· هو يعيش في كوخ وهي في قصر· لكن الكوخ كان في حديقة القصر، والقصر في واحة، والواحة في صحراء، والصحراء في حلم بلا منتهى··

الصفحات