برزخ العالم الثالث- مذكرات سجين في مكان سحيق
تأليف: علاء الدين المدرس
الناشر: دار الرقيم - العراق (2003)
أنت هنا
قراءة كتاب برزخ العالم الثالث
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

برزخ العالم الثالث
الصفحة رقم: 7
حياتنا في البرزخ:
لقد مرت أيام الشتاء قاسية علينا, ونحن نعيش في مكان عفن ورطب ومظلم وبارد, دون أن تتوفر فيه أبسط الخدمات, كالملابس والأغطية والفراش، وذلك لتعذر الاتصال بالأهل ولعدم تعهد الدولة بتجهيز تلك المستلزمات التي يحتاجها السجين. أما قائمة الممنوعات التي تم ابلاغنا بها فليس لها نهاية. فكل شيء يمكن أن تعمله خارج المعتقل مسبوق هنا بكلمة (لا) والمسموح منه مشروط بشروط خاصة وقاسية.. فلا نأكل ولا نشرب ولا ننام ولا نتحرك إلا وفق سياقٍ فضٍّ وغليظٍ وبرنامج أمني متعب. أما الإهانات والضرب فيمكن أن نتعرض لها لأتفه الأسباب والأخطاء داخل القاعة المظلمة. أما الكثافة العددية للسجناء فهي أمر يقرب من الخيال – وسيأتي تفصيل ذلك لاحقاً - . أما الجوع – وما أدراك ما الجوع - فليس أبرز منه ولا أخطر إلا المرض (أمراض المعتقلات المعروفة), فالجوع والمرض من أبرز معالم الحياة هنا في المعتقل. يأتي بعدها الكثرة العددية والكثافة الخانقة, ثم العفونة والقذارة والبرد الشديد (شتاءً) والرطوبة والحر الشديد (صيفاً) .. وأخيراً وليس آخراً.. الظلام الذي يحيط بعالمنا السفلي هذا.
ربما يشعر القارئ بشيء من المبالغة في هذا الوصف, ولكنه لا يمثل غير الواقع الصادق الذي رأيناه وعشناه منذ أشهر طويلة, أنه عالم مظلم صنعه البشر ليعيش فيه مجموعة من البشر لنوع من الحياة هي أقرب إلى عالم الأموات في قبورهم، لولا إنهم يتنفسون ويتناولون ما يسد رمقهم ويجعلهم قادرين على الاستمرار في هذه الحياة, وربما يسقط بعضهم فريسة مرض ما, وقد يؤدي به إلى الهلاك – كما حدث لبعضنا - إنها قصة غريبة يعيشها إنسان القرن العشرين في سنيه الأخيرة, وليس (إنسان نياندرتال) في العصور الغابرة، فيما يسمى بعصور ما قبل التاريخ.
أما الصيف الذي نستقبل أيامه وأسابيعه الأولى حالياً , فله طعم آخر ونكهة خاصة به, فالحر والعرق يصبغنا هنا كما تصبغ البهارات الحارة الطعام الهندي, فلا يتجرعه إلا من اعتاد عليه, فكيف ونحن لم نعتد على ذلك الحر وتلك الظروف القاسية.. فيضاعف ذلك الحر حرارة المحنة في الصيف, كما يضاعف المرض محنة السجن في الشتاء, وهكذا تمر الأيام ونحن نعدها عداً يوماً بعد يوم, بل كنا نحجز لأنفسنا فترة محددة كأن تكون شهراً (مثلاً) ونقوم بوضع إشارة على الحائط عن كل يوم يمر, وإذا انتهت المدة حجزنا لأنفسنا فترة أخرى وهكذا.. وكان البعض يستهويهم أسلوب الحجز هذا، لأنه يحمل في طياته الأمل والبشرى في نهاية مدة الحجز كنوع من الحدس أو الرجاء, وكنا نعيش على أمل الخروج لكننا كنا دوماً مستعدون لتجديد المدة, وكانت هذه الطريقة تساعد على سرعة مرور الأيام والليالي الطويلة، وكأنها حبات الرمل في الصحراء.