تشكل المجموعة القصصية، انعطافاً نحو عالم داخلي، فهي تؤشر بعبثية لزلاّت الحياة قبل أي شيء آخر، وبقدر ما تنبش في واقعٍ نتفادى التحرش به، بقدر ما تشفّ لتكشف ضعفَ الإنسان حين تتطلب الحياةُ قوةً وصلابة، وجبروته حين تقضي الحاجةُ رفقاً وليناً.
أنت هنا
قراءة كتاب أبي لا يجيد حراسة القصور
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 4
حينَ كان والدي يحتضر، ويعبرُ بروحه نحوَ العالم الآخر، استدعاني وأمسك يدي قائلاً: "أريدُ أن أطلب منك شيئاً قبل رحيلي، هو رجائي الأخير، أريدكَ أن تزورَ قبري في أوّل جمعة تلي الدّفن. تعالَ قبل صلاة الفجر بقليل، اجلس قربي واقرأ لي سورةً من القرآن". في الحقيقية لم أكن بحاجة لوصيّة كتلك لأفعلَ معه شيئاً كهذا، إذ كنت قد عزمت أمري على زيارة قبره وقراءة القرآن عن روحه، متى أتيحَ لي ذلك.
في أوّل جمعة تلت دفنه، خرجتُ من البيت قبيل صلاة الفجر بقليل، سرتُ بحذر واتجهتُ نحو المقبرة، لحظتئذ، داهمني شعورٌ بالقلق والاضطراب، فزيارة المقبرة في وضح النهار، أمرٌ يختلفُ تماماً عن المرور بين شواهد قبورها في عتمة اللّيل.
حين أقبلتُ على المقبرة، وجدتُ بابها نصفَ مفتوح، بينما يتلاعبُ ضوء القمر بخيالات الشّجر.
تماسكتُ قليلاً ومضيتُ نحو قبر والدي، وحين صرت أمامه، هالني أن رأيتُ سبعَ حبّات تمر فوقه، ارتبكتُ قليلاً، لم أدرِ ماذا افعل، أبي يحبُّ التّمرَ كثيراً، ويكادُ يكون التمر، الطّعام الوحيد الذي لا ينفذُ من عنده، لكن من أين جاءته كل تلك التمرات!
شوّش هذا الأمر تفكيري، أخذتُ نفساً عميقاً، وتلفّتُ حولي مدققاً النظر في خيال يخطو أمامي بهدوء، حينها، وجدتها تطوف على القبور بطمأنينةٍ لا نظير لها، تضعُ على قبر هذا رغيفَ خبز، وعلى قبر ذاك كأس ماء، وعندما جُلت ببصري على القبور المتناثرة حولي، رأيتُ عليها كلّ ما يمكنُ أن يشتهيه الأموات.
استجمعتُ قواي، واتجهتُ نحوها بحذر، شعرتْ هي بقربي فلم تُعرني أيَّ اهتمام، حينئذٍ سألتها وقلبي يخفقُ بشدّة: "هل لي أن أعرفَ بالضبط من تكونين؟!"، ردّت وهي تسكبُ القليلَ من الحليب الفاتر على قبر رضيعٍ وُري الثّرى بالأمس: "صديقة القبور"!
** * **