أنت هنا

قراءة كتاب امرأة القارورة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
امرأة القارورة

امرأة القارورة

رواية "امرأة القارورة"، للكاتب العراقي سليم مطر، على الرغم من أن هذه الرواية قد لا تكون "رواية" بالمعنى المتعارف عليه.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 3
إني اعيش عالم حلم في رأسها· الوجود بأجمعه ما هو إلا خيال في رأس هذه المرأة التي تعيش في عالم آخر هو ايضاً خيال لكنه في رأس كائن أعظم· كل هذا التاريخ من آلاف وآلاف الأعوام والأقوام والأوطان ما هو إلا دقائق من الحلم في رأس امرأة تمارس رعشتها الأولى في احضان عشيقها· هما يعيشان في عالم آخر من حلم يدور في رأس الكائن الأعظم· إننا حلم رعشة، بعنفها وهمجيتها والمها وبهجتها وترددها بين تلاحم وتناء· شعوب تولد وتفنى·· حروب تخاض وحضارات تقام وبشر يمارسون لذة وتناسل، وارتعاشة هذه المرأة ما زالت تمنح الحياة لحلم وجودنا· في دمها وتلافيف رأسها يعيش جميع أسلافنا، رحلوا إلى الأعماق لينقلوا إشارات لذتها في أنحاء جسدها· خالدون في أعماقها بين عوالم بدنها الشاسع، يمضون خلودهم في رعشة ابدية وتناسل سرمدي وتناسخ في أبدان الأحفاد·
 
يا ترى، كم من لحظات رعشة قد استغرقتها سنوات حربي ومحاولات فراري الست؟ لا أتذكر من حياتي غير الحرب، وقد تحددت مراحل عمري بمحاولات فراري· لم تجبني المرأة عن سؤالي إن كان لي ماض آخر؟ جلبوني هنا دون أن يعرفوا عني حتى اسمي· اندمجت في تقمصي لدور الرجل المعتوه، مسخرة الجنود، الأخرس، المجهول الهوية والأصل·
 
لا أتذكر من حياتي السابقة غير سبعة اعوام حرب امضيتها طريداً بين خنادق موت وأهوار وصحارى وجبال· أتذكر انه بعد بضعة اشهر من اندلاع الحرب، كنا في طريق البصرة الصحراوي عندما هاجمت الطائرات شاحنتنا وفجرتها مع جميع الجنود الذين تخلفوا فيها ولم يتح لهم الهروب معنا· انتثرنا كوحوش كسرت أقفاصها، بين رمال وصخور ومرتفعات، بعيداً عن أعين طيار أحمق تخلف عن جماعته، وظل يلاحقنا برشاشه بإصرار عجيب كأنه يعرفنا شخصياً·
 
شاءت المصادفة أن تمر من هناك قافلة من البدو قادمة من الحدود الجنوبية في طريقها إلى الحدود الغربية· التجأت إليهم عندما وجدوني هائماً في الليل وقد عزمت أن أظل أجول في الصحراء حتى الموت ولا أعود إلى الجبهة· استغثت بشيخهم :
 
ـ أنا دخيلكم·· خلصوني الله يخلصكم··
 
الآن، وأنا في (جنيف)، يمكنني أن أجزمبيقين أن شيخ القافلة ذاك، رغم بساطة مظهره، كان ذا هيبة ملوك ووقار أنبياء· تلوح في ذاكرتي الآن صورة مشوشة لذلك الشيخ الذي تناديه عشيرته (أبو يحيى)· كان كمرآة احتفظت بآثار أماكن وعصور وأقوام انعكست فيها صورهم· إنه ساحر خرافي وحكيم متفقه وبدوي متمرس· عندما أصغى إلى حكايتي هز رأسه محدقأ في خطوط رمال رسمتها أصابعي· قال لي أشياء كثيرة لم أصدقها إلا بعد أن عشت أحداثها· أخبرني بجميع ما سيحصل لي في سنواتي السبع القادمة : محاولات فراري وانتقالي، بل إنه كشف لي شيئاً أعظم من هذا: حكاية (امرأة القارورة) التي سأتعرف عليها بعد سبعة أعوام في جنيف·
 
لم أصدقه·· نخوته أن يوصلني إلى الحدود· سأحاول عبور الفرات والتسلل إلى سوريا ثم إلى لبنان لتدبر جواز للسفر إلى أوروبا· قال إنه من أجل خاطري سيحاول· لكنه بعد ثلاثة أسابيع، كما تنبأ، اضطر إلى تسليمي إلى فرقة عسكرية أوقفتنا في الطريق· اكتشف ضابط الفرقة ذو الشارب الأحمر والعينين الزرقاوين اني غريب بين العشيرة· في البدء رفض الشيخ أن يسلمني إليه· وكادت بسببي ان تنشب الحرب بين الطرفين، لولا أن اكتشف الضابط أخيرا أن هؤلاء البدو هم فرع من عشيرة أخواله·
 
رأيت الضابط يختلي بشيخ العشيرة خلف بقايا معبد مهجور، ليقررا مصيري· عندما عادا، اقنعني الشيخ أن أسلّم نفسي إلى العسكر بعد أن تعهد الضابط بشرفه ان يضمن حياتي وينجيني من حكم الإعدام بتسليمي إلى السلطة على أني كنت تائهاً في الصحراء ولست فاراً·
 
بعد أقل من عام قمت بمحاولة فراري الثانية· ذات يوم خريفي أخرجت رأسي من الخندق، فرأيت شمساً غاربة تفرش على الأهوار حلَة ذهبية وتنشر في الفضاء رائحة عفن· إزاء ذلك الصمت الموحش أحسست بصخب في أعماقي بين حشود بشر تتجادل وتسخرمن بعضها البعض· قلت لأهرب عسى أن تسكت، فزحفت على بطني وتوغلت في أحراش البردي· كانت الخنازير الوحشية وأفاعي الماء والطيور والجواميس لا تزال تعيش صدمة استقبالها لنا، نحن أحفاد سادتها قد عدنا بحيوانات حديدية ووسائل دمار حديثة، حفرنا خنادقا ورحنا نعبث بلعبة جهنمية· حتى هذه الحيوانات الوحشية قد صُدمت مشاعرها وفقدت شجاعتها وراحت تهرب من أية حركة حتى لو كانت صادرة عن حيوان آخر·
 
قلت أهرب وألتجىء إلى العشائر النائية عسى أن أجد فرصة للتسلل إلى الخارج، لكن جنود الجيران انبثقوا فجأة من الأحراش مثلما يحدث في سينما المغامرات· كانوا يصرخون : اللهو أكبرو، وارتموا فوقي· رغم استسلامي، شاء أحدهم لكي يضمن خضوعي تماماً، أن يطعنني بالحربة في كتفي، وجرّوني ورائهم مقيداً ككلب·
 
الآن وبعد أعوام على هذ ا الحادث، إذ طالعت حكاية (امرأة القارورة)، يمكنني القول إني في يوم هربي ذاك قد عشت جوّاً غرائبياً شبيها بأجواء هذه الحكاية· بينما كانوا يقودونني بين الأهوار إلى موقعهم، كان المساء قد حل وجراح كتفي ما زالت تنزف· حشود روحي راحت تصحو من غيبوبتها وتتمطى وتطرح علي أسئلتها التي استفحلت بسرعة إلى شكوك وعتاب وشتائم ودق على جدار صدري· شرعت بذرة من الكآبة تكبر وتتكور وتستحيل إلى لهيب يحرق أحشائي ويمتد إلى رأسي وأطرافي·

الصفحات