أنت هنا

قراءة كتاب امرأة القارورة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
امرأة القارورة

امرأة القارورة

رواية "امرأة القارورة"، للكاتب العراقي سليم مطر، على الرغم من أن هذه الرواية قد لا تكون "رواية" بالمعنى المتعارف عليه.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 4
فجأة، دون أن أدرك كيف، هزت الكون صرخة ما سمعت مثلها قبلا، ومادت الأرض من تحتي وقدح ضوء كبرق ثم لا أدري بعدها ماذا حدث·· كأنني تفتت وتبعثرت في الوجود؟! بعد تيه في عوالم من نور وألوان وأشباح، كانت تتوضح على هيئة جنان خضراء فيها منازل بيضاء كالثلج تنتثر بين حدائق وأعشاب وغدائر تصب في بحيرات تطفو على سطحها مواكب عشاق وحوريات كقديسات وملائكة كأطفال· وأنا كائن بدائي مثخن بجراح وعار هزيمة، أزحف على الشاطىء أريد أن ألحق الأصحاب في مواكبهم، لكني كنت أغرق في دوامة ماء·· أغوص وأغوص و··· لحظة لفظت رمقي الأخير، فتحت عينَي!!
 
صحوت على نفسي في شاحنة وجندي مخدَش الوجه، ممزق الثياب، قاسي الملامح، يصب على وجهي ماءً· خاطبني وهو يفك بندقيته ويمسح حربته من الدم: شوف كيف حررناك منهم·· الحمد الله القنبلة ما قتلتك·· هم، بعثناهم إلى جنتهم كلهم دفعة واحدة··
 
وعندما أردت ان أتحرك، تجمدت اطرافي إذ شعرت بقطع لحمي المحروق تتساقط وتلتصق بأسمالي·
 
ما مضت أشهر حتى قمت بمحاولة فرار ثالثة· قبل ان تتيبس حروقي وتلتئم جروحي ارجعوني إلى الجبهة· منذ أن البسوني بدلتي العسكرية من جديد، هبت فجأة حشود روحي التي كانت غافية في أثناء فترة العلاج· من جديد وبعنف أكثر نطت إلى رأسي فكرة الفرار·
 
في حزيران 1984، لم تكن قد انتهت بعد السنة الثالثة على الحرب عندما شرعت في الاتصال ببعض الأصدقاء من المهاجرين المصريين· بعد مداولات ومحاولات عديدة عرفوني بشاب قال ان نصفه صعيدي ونصفه تونسي، لهذا فانه كان يمتلك جوازين بإسمين شبه مختلفين ومن دون علم الدولتين· من حسن الحظ ان هذا الشاب كان يشبهني الى حد مدهش، حتى ليبدو انه شقيقي التوأم! بسبب هذا التشابه تعاطف معي ومنحني ثقته من اول لقاء· قرر اعارتي الجواز التونسي على امل ان ارجعه له بعد استقراري في اوربا· وخلال ايام علمني مفاتيح اللهجة التونسية التي لم تختلف كثيرا عن اللهجة العراقية·
 
كان حلم (اوروبا) يستحيل في أعماقي إلى صرخة تمرد راحت تنشدها حشودي وهي تدق على جدار روحي· كان مساء خميس عندما نزلت في إجازتي من الجبهة· الساعة الخامسة وصلت إلى موعدي مع صديقي المصري التونسي، وفي الساعة السابعة كان الجواز بحوزتي· الساعة العاشرة كنت في الباص الراحل إلى اسطنبول·
 
لم يكن يشغلني ماذا سأفعل هناك· المهم أن أخرج من الجحيم وبعدها لا يهم أين· طيلة ساعات الطريق وحتى أيقظني رجال الأمن في الفجر، عيناي كانتا مغلقتين على آخر أنوار بغداد، وقد انبجست في رأسي صورة مدينة متلألئة تتوسطها بحيرة تفرش مياهها بين سلسلتين جبليتين، عرفت بعد سنين انها جنيف!
 
شاء سوء الحظ أن يكتشفوا تشابها بين اسمي في الجواز واسم أحد المطلوبين، فاوقفوني· في الليل، قبل ان يستجوبوني ويكتشفوا حقيقة هويتي، تركت لهم الجواز وهربت من النافذة· عدت إلى وحدتي العسكرية دون أن يكتشف أحد محاولتي
 
المحاولة الرابعة كانت في شتاء 1985· هربت مع أحد الأصحاب إلى أعماق الهور، وانضممنا إلى جموع عصاة فارين من الجيش· كان صاحبي هذا مهووساً بممارسة اللذة على خيال نساء أعدائه· ابتدأ عندما كان صبياً على صورة وهمية صنعها لـ(غولدا مائير)، ثم بعدها انتقل إلى (مسز تاتشر) ليجعلها تصرخ كل ليلة بين ذراعيه!
 
كان يفوقني بجنونه ولهفته إلى (أوروبا)· التجأنا إلى عصاة الأهوار أملا في العثور على طريق خلاص· رحنا نمارس حرباً أخرى لا من أجل الأرض بل من أجل اغتصاب قوتنا اليومي· كنا نتنكر برتب عسكرية كبيرة، ونوقف القوافل لنسلبها بأوامرنا المزيفة· كنا نتنقل مجموعات مجموعات، بعيداً عن أعين الطائرات المروحية التي كانت تقذف برشاشاتها الحارقة على أحراش مأوانا· كنا كحيوانات كاسرة مهددة من جميع الأنحاء بمصير الانقراض الزاحف : عسكر بلادنا من الغرب، وعسكر الجيران من الشرق، ومن الداخل هناك عملاء السلطة من أبناء عمومتنا·
 
ضربات الطبيعة ونكباتها كانت لنا بالمرصاد: بعوض، ملاريا، ولسعات افاع وعقارب ونهشات خنازير، وما تجلبه لنا السماء بين حين وآخر من قنابل وصواريخ قد أخطأت اهدافها لتسقط على رؤوسنا· وقعت أنا فريسة لسعات البعوض وانتشرت في دمي جراثيم ملاريا، فكنت في نوبات الحمى أغمض عيني وأشاهد دواخلي قد لوثها الموت وصارت مثل الأهوار قد امتزجت مياهها ببارود ونفط وجثث عسكر·
 
صاحبي مات بجانبي وهو يواسيني· انحنى على الشاطىء فجائته رصاصة وهي ترن واخترقت الرقبة· بهدوء استلقى على ظهره كأنه قد تهيأ كعادته لتخيل صورة زوجة قاتله، وابتسم بألم وهمس بلهجة معتذرة :
 
ـ ماشي الحال·· هذا نصيبي·· ومات···
 
عدت منتكساً إلى بغداد بعد أن شتتت الطائرات والخيانات الكثير من جماعاتنا، واستهلكت الملاريا دمي· عدت، لا لكي اموت بين أهل وأصحاب لا أتذكرهم، بل لأني لم أكن امتلك خياراً آخر· لكنهم لم يعدموني· لا ادري لحسن حظي ام لسوئه، اعتبروني مشمولا بعفو صادر عن الفارين· ادخلوني المستشفى وعالجوني حتى شفيت واعادوني إلى الجبهة·

الصفحات