رواية "امرأة القارورة"، للكاتب العراقي سليم مطر، على الرغم من أن هذه الرواية قد لا تكون "رواية" بالمعنى المتعارف عليه.
أنت هنا
قراءة كتاب امرأة القارورة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 5
المحاولة الخامسة كانت ذات ليلة من ربيع 1986، عندما قررت أن أقطع ذراعي بتفجير قنبلة يدوية في كفي· تبا لذراعي·· سوف اضحي بها قربانا لخلاص بدني وروحي·
بالحقيقة ان الفكرة ما أتتني صدفة، صحيح اني سمعت عنها هنا وهناك، لكن ثمة ذئب شجعني على اتخاذ قراري· نعم ذئب قد رأيته ذلك المساء يزحف امام خندقنا وهو يأن ويعوي بنشيج اشبه بنشيج البشر· انكسر قلبي عليه فزحفت خارج الخندق من دون علم اصحابي واقتربت منه· عندما رآني لم يخف ولم يغضب بل راح يرمقني بألم كأنه يطلب الرحمة· عرفت ان لغما قد انفجر به إذ كانت الدماء تنزف من انحاء جسمه· رغم مشاهد الموت والجراح التي عايشتها مع رفاقي طيلة سنوات الحرب، الا اني لسبب اجهله حتى الآن، شعرت بتعاطف مع ذلك الذئب لم اعرفه من قبل! اخترقتني نظراته المحتضرة كأني ارى فيها نفسي· بدت ملامحه بشرية اكثر من البشر، قريبة، اليفة، وكأني عايشتها لحقب طويلة مجهولة· من دون تفكير انحنيت عليه واحتضنته ورحت ابكي· لم انتبه الى الساعات التي مرت، بل صحوت على نداءات اصحابي وهم يفتشون عني في البرية· كان الذئب الجريح قد مات والليل قد خيم·
عدت الى الخندق وفي رأسي فكرة واحدة وحيدة : ان اقطع يدي لكي اهرب· قلت لا يهم الأمر، سوف اسافر بعدها الى اوربا واضع ذراعا صناعية افضل من ذراعي الاصلية· في آخر الليل أخرجت يدي اليسرى إلى حافة الخندق ورجوت احد الأصحاب أن يسحب المسمار من القنبلة لأن يدي الأخرى قد شلها الرعب· أتذكر، رغم انه وافق وسحب المسمار، ارتمى فجأة علي وراح ينحب كطفل، ليثنيني عن تفجير القنبلة في اللحظة الأخيرة·· لكنها انفجرت· ولأنها كانت نصف فاسدة، فهي لم تنهش مني غير إصبع واحد!
ادخلوني المستشفى وعالجوني ثم أرجعوني إلى الجبهة بعد ان اخبروني أنهم يشكون في ادعائي بالحادث· لولا شهادة الأصحاب لأعدموني· أنذروني ان أي تكـرار لمحاولتي فإنهم سوف يلبون رغبتي بأنفسهم بوضعي في مدفع وتفجيري على مواقع العدو·
محاولتي السادسة تمت رغماً عني· كانت هروباً من الموت أكثر من كونها هربا إلى الحرية· كانوا قد رموني في جبهة (الفاو) في موقع أرضه من أطيان وقبور جماعية سرية، تجعل الأرض تنز دماً حينما تمر فوقها شاحنة أو دبابة· يوماً بعثني ضابطي إلى الخندق المجاور، وما أن خرجت حتى قصفته الطائرات· ركضت إلى خندق اخر، فطردني الضابط وأمرني بالعودة، وما أن خرجت منه أيضا حتى قصفته الطائرات! أربعة خنادق متتالية لا تقصفها الطائرات إلا عندما أتركها!؟ سمعتهم يتشاورون بينهم بأني إما نبي وإما جاسوس، فهربت·
عدت إلى بغداد· وعن طريق صديق قديم كان سياسيا وتحول إلى مهرب محترف بعد أن بزغت مواهبه المنسية يوم قبضوا عليه فتنكر لقضيته لقاء ضمان حمايته· تمكنت من عبور الجبال للالتحـاق بالعصاة في شمال الوطن· أخبروني في بغداد أني سأستطيع من هناك التسلل الى تركيا ومنها سأشق طريقي إلى أوروبا· في مثلث الحدود العرا قية ـ التركية ـ الإيرانية، في أودية محاطة بجبال صخرية تهابها أعتى الجيوش، كان ينتشر آلاف الرجال المسلحين مع عدد أقل من النساء، يقيمون في كهوف وتحت سقوف صخرية لا تفتتها أشد القنابل فتكا· آلاف من الحـالمين، أكراد بغالبيتهم ومعهم عرب وسريان وتركمان، مسلمون ومسيحيون وصابئة ويزيديون وملحدون، طلاب وعمال وفلاحون وعسكريون، في طبيعة قاسية من ثلوج وأمراض وقنابل طائرات ومؤامرات خفية·
كنت من قبل في حرب نظامية بين جيشين متجابهين، أما الآن فأني في ساحات حروب بين جيوش سرية وعلنية، قبائل وعوائل ومشايخ ومهربون وتجار، يرتدون اثواب ثورة ويرطنون بمدن فاضلة، ويخوضون حروباً فيما بينهم· بعضهم مع دولة وضد اخرى، وبعضهم ضد هذه ومع تلك، وبالنتيجة فإن الجميع يتعاملون مع الجميع وضد الجميع!
ذات يوم كنت منحدراً في واد مع مجموعة من الأنصار، مسربلين بأشعة نحاسية غمرت المكان· ثمة شيء ما غامض كان يضفي على المشهد شحوبا غريباً ينبىء بكارثة، وقد ارتسمت على وجوه الجبال ملامح ترقب وحذر· لقد تعمق لدي هذا الشعورعندمالمحت مجموعة غربان سوداء تحوم فوقنا بين اغصان البلوط· لا ادري أية قوة غريبة دفعتني إلى ان اتلكأ في مشيتي ووقفت لأتبول خلف صخرة· فجأة لعلع الرصاص في الغابة وتقطعت الأغصان واختلط نعيق غربان مع صرخات بشرية جريحة· عندما ركضت وقع علي رفيق جريح· سقطتُ وسقط هو فوقي· كان وجهه فوق وجهي وقد جحظت عيناه في عيني ونزفت دماء من ثقب في جبهته· رغماً عني تسربت قطرات من دمه إلى فمي وامتزج طعمها حاراً حامضا مع لعابي، فأحسست لحظتها بتقزز كما لو ان آلاف الثعابين قد تسللت إلى احشائي· كنت أصرخ وأنا لا أفكر إلا بشيء واحد : كيف أزيل دم رفيقي من احشائي· لقد شربت دمه وهو يموت!
لم اعد أدرك شيئاً من الوجود· تلاشت لعلعة الرصاص وانفجارات القنابل· رحت اركض واركض وأنا أبصق· بصقت حتى دمي·