أنت هنا

قراءة كتاب الإيجاز في الموروث البلاغي والقرآن الكريم

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الإيجاز في الموروث البلاغي والقرآن الكريم

الإيجاز في الموروث البلاغي والقرآن الكريم

كتاب "الإيجاز في الموروث البلاغي والقرآن الكريم"، في هذه البيئة البلاغية والأدبية نشأ الإيجاز ونما· وقد أقبل السلف من البلاغيين والكتاب والشعراء والخطباء المفوّهين على الإيجاز بكلّ أشكاله ليقيموا علاقة عكسية بين غيض اللغة وفيض المعنى، بين جزر الدالّ ومدّ ال

تقييمك:
1
Average: 1 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 2
والجاحظ في البيان والتبيين يشير، وهو يدافع عن العرب وبلاغتهم، إلى أنّ خطباء العرب مالوا إلى الإيجاز بقوله: وخطباؤهم أوجز(13) بما يعني أنّ الإيجاز هو من علامات البلاغة الرفيعة· وقالت العرب أيضا: إنّ الإطالة أكثر أسباب الملالة·(14) وقالت: خير الكلام ما قلّ ودلّ وجلّ ولم يملّ· وجعلوا البلاغة في الإيجاز· وعندما سئلوا عنها، أي البلاغة، قالوا: قليل يُفهم، وكثير لا يُسأم· وقالوا: البلاغة إجاعة اللفظ، وإشباع المعنى· وهي معان كثيرة في ألفاظ قليلة· وقالوا فيها أيضا: هي إصابة المعنى وحسن الإيجاز· أو كما قال خلف الأحمر: البلاغة لمحة دالة·(15) أو كما قال الخليل بن أحمد (ت 175 هـ): كلمة تكشف عن البقية·(16) وحينما سأل معاوية عمرو بن العاص: من أبلغ الناس؟ أجابه ابن العاص: من اقتصر على الإيجاز وتنكب الفضول·(17) وهذا ابن المقفع يرفع الإيجاز مقاما رفيعا بتعريفه للبلاغة بقوله: فعامة ما يكون من هذه الأبواب ]وجوه البلاغةصلى الله عليه وسلم الوحي فيها والإشارة إلى المعنى، والإيجاز هو البلاغة(18) وفي الموضع ذاته يجعل ابن المقفع السكوت وجها من وجوه البلاغة· ولعلّ هذا ما رمى إليه عبد القاهر الجرجاني حين قال: ترك الذكر أفصح من الذكر(19) وكلّ هذه الشواهد إن دلت على شيء فإنما تدلّ على المكانة الرفيعة التي يحظى بها الإيجاز في لغة العرب وبلاغتهم·
 
لقد عرف العرب، على مرّ العصور، أشكالا عديدة من الإيجاز في أدبهم أيضا· عرفوا الأمثال والحِكَم والتوقيعات والأخبار والنوادر والرسائل والقصار (المقطوعات الشعرية القصيرة) في ما تقدّم من عصور، مثلما يعرفون اليوم الأقصوصة القصيرة (القصة القصيرة جدا) والنثيرة (القصيدة القصيرة)· لقد عرفوا الإيجاز وأحبّوه في المنطوق والمكتوب· وهكذا ظهر المثل والحكمة وذاع صيتهما، كنوعين أدبيين يقومان على المشافهة، ثمّ ظهرت التوقيعات، فيما بعد، كجزئية نصية ملحقة في الرسائل المكتوبة· وهي أقصر الأشكال وأشدّها إيجازا مما ورد إلينا من أدب العرب منذ الجاهلية· إنّ الطاقة الإجمالية والتلخيصية التي تتمتّع بها هذه الأشكال الثلاثة تضعها في قلب الإيجاز بما يعنيه من تكثيف للمعاني وتوليد للدلالات في أقصر لفظ· وقد وجدنا من المناسب، في هذه العجالة، الإشارة إلى تلك الأشكال الأدبية الموجزة حتى نبيّن البيئة الأدبية التي احتضنت مفهوم الإيجاز ووفّرت له المسوّغ العملي لتثبيته وتطوّره·
 
أما الأمثال(20) فقد قال فيها ابن رشيق: إنما سمّي مثلا لأنه ماثل لخاطر الإنسان أبدا، يتأسّى به، ويعظ ويأمر ويزجر، وفيه خلال ثلاث: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، ويرى ابن رشيق أنّ أفضل المثل هو أوجزه(21) وتجدر الإشارة إلى أنّ الباحثين يفرّقون بين المثل والحكمة برغم نقاط التلاقي بينهما·(22)
 
أما التوقيعات فهي في المجمل عبارات بلاغتها في إيجازها· وهي فن أدبي كتابي، ارتبطت بداياته بظهور الرسائل المكتوبة·(23) وقد بدأت تظهر مع فترة الخلفاء الراشدين في الرسائل التي كان الخلفاء أو الوزراء أو الأمراء أو الولاة أو القضاة يبادرون إليها أو في ردودهم على رسائل كانت تُرسل إليهم·(24) وقد يكون التوقيع آية قرآنية قصيرة، أو حديثا نبويا شريفا، أو حكمة، أو بيت شعر مأنوسا، أو مثلا، وما إلى ذلك·(25) يقول البطليوسي (444 - 521 هـ) في تعريف التوقيع: وأما التوقيع فإنّ العادة جرت أن يستعمل في كلّ كتاب يكتبه الملك، أو مَنْ له أمر ونهي، في أسفل الكتاب المرفوع إليه، أو على ظهره، أو في عَرْضه، بإيجاب ما يُسْأل أو منعه، كقول الملك: ينفذ هذا إن شاء الله، أو هذا صحيح· وكما يكتب الملك على ظهر الكتاب: لِتُرَدَّ على هذا ظُلاَمته· أو لينظـر في خبر هذا، أو نحو ذلك(26) ويقول ابن خلدون (732 - 808 هـ): ومن خُطط الكتابة التوقيع، وهو أن يجلس الكاتب بين يدي السلطان في مجالس حكمه وفصله، ويوقّع على القصص المرفوعة إليه أحكامها والفصل فيها، متلقاة من السلطان بأوجز لفظ وأبلغه· فإما أن تصدر كذلك، وإما أن يحذو الكاتب على مثالها في سجل يكون بيد صاحب القصة، ويحتاج الموقّع إلى عارضة من البلاغة يستقيم بها توقيعه(27) وابن خلدون في هذا التعريف الموجز، مثلما نرى، يؤكّد على ميزتين هما في غاية الأهمية: الإيجاز والبلاغة، وهما متعالقتان أشدّ التعالق·
 
في هذه البيئة البلاغية والأدبية نشأ الإيجاز ونما· وقد أقبل السلف من البلاغيين والكتاب والشعراء والخطباء المفوّهين على الإيجاز بكلّ أشكاله ليقيموا علاقة عكسية بين غيض اللغة وفيض المعنى، بين جزر الدالّ ومدّ المدلول· فمثلما يتراجع البحر في جزره ويتقلص وينحسر ويتكثف ليكون مدّه أشدّ وأعتى، كذا تتّسع الدلالة إذا ما تقلصت اللغة وانحسرت فانحصرت· وتظلّ اللغة، بصفة عامّة، أعجز عن احتواء الواقع الذي تتوالد فيه ومن أجله· تُعنى البلاغة، من بين ما تُعنى به في محصلتها العامة، بـتحايل اللفظ على المعنى· والتحايل قد يعني الإيجاز والإشارة والتعريض والتورية والتشبيه والاستعارة والكناية وغيرها من الآليات التعبيرية التي تسعى إلى تحسين أداء المعنى عبر تعويقه أو تأجيله وتضليله وتظليله·(28) من هنا كانت المباعدة بين اللفظ ومعناه أو التركيب اللغوي ودلالته من جملة النتائج التي تسعى إليها البلاغة العربية منذ كانت·

الصفحات