يقدِّم جلعاد عتسمون سرداً شائقاً وآسراً لرحلته من قومي إسرائيلي متطرِّف إلى مواطن للإنسانية تجرَّد من الصهيونية، وبات مدافعاً متحمِّساً عن العدالة من أجل الشعب الفلسطيني· إنها قصّة تحوّل يرويها بنزاهة مطلقة، بحيث يتعيّن على كلّ أولئك (خصوصاً اليهود) المهتمّ
أنت هنا
قراءة كتاب من التائه؟
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 5
بعد يومين، حصلتُ على أول ساكسفون لي· وهي آلة من السهل البدء بالعزف عليها - ولكم في بيل كلينتون (الرئيس الأميركي السابق) خير مثال - لكن تعلُّم العزف مثل بيرْد أو كانُنْبول أدَرْلي(9) بدا مهمةً مستحيلة· بدأت أتدرّب ليل نهار، وكلمّا تدرّبتُ، أُخذتُ أكثر بالمنجز الهائل لتلك العائلة العظيمة من الموسيقيين الأميركيين السود الذين بدأتُ أعرفهم عن قرب· ففي غضون شهر، تعرفت إلى سوني رولينز، وجو هندرسون، وهانك موبلي، وثيلونيوس مونك، وأوسكار بيترسون ودوك إلينغتون(10)، وكلما استمعتُ أكثر، أدركتُ أن تنشئتي المتمحورة حول اليهودية كانت، بصورة ما، مضلِّلة تماماً·
بعد شهر ظلَّ الساكسفون خلاله محشوراً في فمي، تلاشت حماستي للقتال العسكري تماماً· وبدلاً من قيادة طائرات الهليكوبتر خلف صفوف العدوّ، بدأتُ أحلم بالعيش في نيويورك أو لندن أو باريس· كل ما أردته هو أن أستمع لعظماء الجاز يقدِّمون عزفاً حيّاً، إذ كان ذلك في أواخر سبعينات القرن الماضي وقسم كبير منهم كانوا لا يزالون في الجوار·
في الوقت الراهن، يسعى الشباب الذين يريدون عزف الجاز إلى الالتحاق بكليّة موسيقى· لكن الوضع كان مختلفاً جداً في أيامي· فأولئك الذين يريدون تعلم الموسيقى الكلاسيكية كانوا ينضمون إلى معهد موسيقي، أما أولئك الذين يريدون العزف فقط من أجل الموسيقى نفسها فكانوا يظلون في بيوتهم، ويعزفون على مدار الساعة، متلمّسين الإيقاع بحدسهم· لم يكن ثمة تعليم لموسيقى الجاز في إسرائيل آنذاك، وكان في القدس، بلدتي، نادٍ واحد صغير للجاز، كائنٌ في حمام تركي قديم آسر تم تحويله لهذا الغرض· كان النادي، في ظهيرة كل يوم جمعة، يستضيف جلسةَ عزفٍ مُرتجلة لموسيقى الجاز، وخلال أول عامين لي مع الجاز، شكّلت جلساتُ العزف هذه جوهرَ حياتي· لقد توقفتُ عن القيام بأي شيء آخر· كنتُ فقط أتدرّب، طيلة الليل والنهار، بل حتى وأنا نائم، وأحضِّر نفسي لـجمعة الجاز المقبلة؛ مستمعاً إلى الموسيقى، ومترجِماً - بطريقتي - مجموعة من روائع المقطوعات المنفردة· كنتُ أتدرّب أثناء نومي، متخيِّلاً تبدّل النغمات، ومتنقلاً فيما بينها· لقد قررتُ أن أكرِّس حياتي للجاز، متقبِّلاً الحقيقة بأن فرص بلوغي القمة، كإسرائيلي أبيض، قد تكون ضئيلةً نوعاً ما·
لم أكن قد أدركتُ بعد أنّ ولعي المتنامي بالجاز قد تغلّب على ميولي القوميّة اليهودية؛ وأنني عندئذٍ ربما قد أكون تخلّيتُ عن مفهوم أننا مختارون كي أصبح إنساناً عادياً· وبعد سنوات، اكتشفتُ فعلياً أن الجاز كان طريقي للنجاة·