أنت هنا

قراءة كتاب من التائه؟

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
من التائه؟

من التائه؟

يقدِّم جلعاد عتسمون سرداً شائقاً وآسراً لرحلته من قومي إسرائيلي متطرِّف إلى مواطن للإنسانية تجرَّد من الصهيونية، وبات مدافعاً متحمِّساً عن العدالة من أجل الشعب الفلسطيني· إنها قصّة تحوّل يرويها بنزاهة مطلقة، بحيث يتعيّن على كلّ أولئك (خصوصاً اليهود) المهتمّ

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 6
وفي غضون أشهر، بدأتُ أشعر بأنني أقل ارتباطاً بالواقع المحيط بي، حيث رأيتُ نفسي جزءاً من عائلة أكبر وأشمل بكثير، عائلة من عشّاق الموسيقى، كأناس رائعين معنيّين بالجمال والروح، بدلاً من الأرض والجشع والاحتلال·
 
على أنني كنتُ ما زلتُ مضطراً للالتحاق بالجيش الإسرائيلي· وعلى الرغم من أن أجيالاً لاحقة من موسيقيّي الجاز الإسرائيليين الشباب هربوا من الجيش ببساطة، فارّين إلى نيويورك، قِبلة الجاز، فإن مثل هذا الخيار لم يكن متاحاً لي، بوصفي فتى شاباً ينحدر من أصول صهيونية في القدس· بل إنّ هذه الإمكانية لم تخطر ببالي·
 
في يوليو/تموز 1981، التحقتُ بالجيش الإسرائيلي، لكن منذ اليوم الأول لي في الخدمة العسكرية، بذلتُ قصارى جهدي لتجنّب نداء الواجب؛ لا لأني كنتُ داعية سلام، ولا لأني كنت أبالي بشأن الفلسطينيين، بل لأنني فضلتُ فقط أن أكون وحدي مع الساكسفون·
 
في يونيو/حزيران 1982، عندما بدأ الاجتياح الإسرائيلي للبنان، كان قد مضى عام على انخراطي في العسكرية كجندي· لم تكن ثمة حاجة لعبقري لاكتشاف الحقيقة؛ لقد عرفتُ أن قادتنا يكذبون، والحقّ فإنّ كل جندي إسرائيلي فهم أن هذه الحرب كانت عدواناً إسرائيلياً· شخصياً، لم أعدأشعر بأدنى ارتباط بالقضية الصهيونية، أو بإسرائيل، أو بالشعب اليهودي· ولم يعد الموت على المذبح اليهودي يغريني· ومع ذلك، لم تكن السياسة بعد أو الأخلاق هي التي تحرِّكني، وإنما توْقي كي أكون وحدي مع آلة الساكسفون الجديدة خاصتي، نوع سِلْمر باريس مارك السادس(11)· وبدا أن عزف السلم الموسيقي بسرعة الضوء بالنسبة لي أكثر أهمية بكثير من قتل العرب باسم المعاناة اليهودية· وهكذا، بدلاً من أصبح قاتلاً مؤهَّلاً، أنفقتُ كلَّ جهد ممكن في محاولة الانضمام إلى واحدة من الفرق الموسيقية العسكرية· ولقد استغرق الأمر بضعة شهور، لكنني تمكنتُ في النهاية من الالتحاق بسلام بالفرقة الموسيقية التابعة لسلاح الجو الإسرائيلي·
 
وكانت الفرقة الموسيقية لسلاح الجو الإسرائيلي قد تشكلتْ على نحو فريد من نوعه؛ إذ بالإمكان أن تُقبَل بها إما لأنك موسيقي ممتاز أو أنك تملكُ موهبةً واعدة، أو لكونك ابن طيار ميّت· والحقيقة بأنه تمّ قبولي في الفرقة الموسيقية مع معرفة أن والدي لا يزال على قيد الحياة كان مدعاةً لشعوري بالاطمئنان: فللمرّة الأولى، فكّرتُ باحتمال أنني قد أمتلكُ موهبةً موسيقية·
 
لدهشتي البالغة، لم يكن أيٌّ من أعضاء الفرقة يتعاطون مع الجيش بجديّة؛ فجميعنا كنا معنيّين بشيء واحد فقط: تطوّرنا الموسيقي الشخصي· لقد كرهنا الجيش، ولم يمض وقت طويل قبل أن أبدأ بكراهية الدولة ذاتها التي استلزمت وجود سلاح للجو استلزم بدوره وجود فرقة موسيقية له، الأمر الذي حال بيني وبين التدرّب أربعاً وعشرين ساعة في اليوم على مدى أيام الأسبوع السبعة· وحين كان يتمّ استدعاؤنا للعزف في حدث عسكري، كنا نحاول أن نقدّم أداءً ضعيفاً قدر الإمكان، كي نضمن ألا تتم دعوتنا ثانية· وفي بعض الأحيان، كنا نجتمع بعد الظهيرة فقط كي نتدرّب على العزف بصورة سيئة، حيث أدركنا أنه كلما كان أداؤنا سيئاً كجماعة ظفرنا بحرية شخصية أكبر· في الفرقة الموسيقية العسكرية تعلّمتُ للمرّة الأولى كيف أكون مدمِّراً، كيف أخرِّب النظام كي أحقق هدفاً شخصياً·

الصفحات