في البدء نود أن نؤكد على أنَّ لـ"بيت الحكمة العباسي" جذوره التي تضرب في أعماق التاريخ، أي في تراث العراق القديم أيام السومريين والبابليين والآشوريين هنا في بلاد بابل وفي العصر البابلي القديم، أي ابتداءاً ومن حدود عام 2000 ق.م.
أنت هنا
قراءة كتاب بيت الحكمة العباسي ودوره في ظهور مراكز الحكمة في العالم الاسلامي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
بيت الحكمة العباسي ودوره في ظهور مراكز الحكمة في العالم الاسلامي
الصفحة رقم: 4
هنا نجد نقطة تطابق مهمة للمقارنة بين جهود الملك آشور بانيبال للحصول على ألواح المعارف من بابل ووضعها في مكتبته في نينوى وبين جهود الخليفة العباسي المأمون الذي أرسل إلى القسطنطينية صاحب بيت الحكمة (سهل بن هارون) للحصول على الكتب الفلسفية والطبية لوضعها في خزانته في بغداد. لكن الاثنين يختلفان في الهدف، فبينما يسعى الملك الآشوري إلى الحفاظ على تراث بلده من خلال جمع نوادر المؤلَّفات السومرية والبابلية واستنساخها في مكتبة نينوى، فإنَّ خطوة الخليفة العباسي للحصول على الكتب اليونانية تعد انفتاحاً على الثقافة الأجنبية وهي لذلك تعد مثالاً ممتازاً على ما نُسمِّيه اليوم بحوار الحضارات أو الثقافات الداعي إلى تعايش الأمم في ظل الدعوة إلى السلام وتبادل المعرفة واحترام آراء ومعتقدات الطرف الآخر.
لقد أثبتت الدراسات المسمارية والكشوفات الأثرية خلال القرن المنصرم، أنَّ الإغريق على وجه الخصوص، تأثروا بشكل واضح بحضارة العالم العربي القديمة (العراق، مصر، بلاد الشام) في مجالات شتَّى شملت الكتابة والفكر والمعتقدات الدينية واللغة والأدب (الهندسة والرياضيات والطب والفن والعمارة...). لقد وصلت معظم هذه التأثيرات وغيرها كثيراً من بلدان العالم العربي إلى بلاد اليونان عن طريق الأجزاء الغربية من آسيا الصغرى والمناطق الساحلية لبلاد الشام وبحر إيجة وجزره. والحقيقة أنَّ ما يستخلصه الباحث من دراسة تلك التأثيرات القديمة في الحضارة اليونانية أنَّ بلاد اليونان مدينة لحضارة العالم العربي بأشياء كثيرة. وأنَّ ما أخذه العرب من الثقافة اليونانية خلال العصور الإسلامية فيه كثير من "بضاعة" العالم العربي عندما انطلقت مظاهر من حضارة وادي الرافدين والشام ووادي النيل غرباً إلى بلاد اليونان والرومان ثم لتعود إليهم ثانيةً في "زيٍّ جديد" هو الثقافة الهلنستية(1).
إنَّ من أهم المظاهر الحضارية لبلاد وادي الرافدين هو اختراع الكتابة في منتصف الألف الرابع ق.م. ويمكن القول أنَّها الميزة والمظهر الرئيسي، فبوساطة الكتابة تمكنوا من تدوين علومهم ومعارفهم وتأريخهم وثقافتهم وبها انتقلت العلوم والمعارف من جيل لآخر، كلَّ جيل أضاف وغيَّر وبدَّل وفق متطلبات عصره وحاجته، فتوسعت بذلك مدارك الإنسان وأفق تفكيره. وأضحى مطلعاً على خبرات وتجارب عشرات بل مئات السنين بمجرد قراءة نصوص مكتوبة على بضع ألواح طينية. وقد وجَّه سكان بلاد الرافدين جلَّ عنايتهم إلى وجوب تعلّم الكتابة وإتقانها. فكان النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد طور النضج والازدهار لنظام التعليم في العراق، ويُفهم من النصوص المسمارية أنَّ التعليم لم يكن مقتصراً على الذكور بل شاركت الفتيات أيضاً فيه.
وقد أجمعت الآراء على أنَّ كلمة (girginakku) الأكدية تعني المكان الذي تُحفظ فيه الرُقُم الطينية أو المكتبة وبخاصة تلك الملحقة بالمعابد. وهي على الأغلب كلمة مستعارة من اللغة السومرية، وقد كان أصلهاgir – gin – un بمعنى سلسلة من الألواح. ويُرادف كلمة girginakku الكلمة السومرية TM – GU – LA أو TM –LA، كما وردت تسمية أخرى بصيغة E. IM. GU. LA التي تعني مكتبة ملحقة بمعبد أو لها علاقة بمعبد ما(2) وكما ذكرنا فقد حُفظت في تلك المكتبات شتَّى أنواع المعارف والعلوم مثل النصوص التاريخية والدينية والقانونية ونصوص تبحث في الفلك والتنجيم والطب ونصوص لغوية ومعجمية. ومن أنواع الألواح المهمة الأخرى التي حُفظت في المكتبات ألواح يُطلق عليها في اللغة الأكدية تسمية (liginnu) القريبة في لفظها ومعناها من الكلمة العربية (لقَّن) وهي ألواح كُتبت فيها نصوص أو مقتطفات عامة، وتُخصص هذه الألواح لأغراض التعليم وتُقرأ عادةً بصوت مرتفع(3)، كما وردت إشارات إلى وجود أنواع من الألواح فيها تعليمات خاصة بمُغنِّي المعبد (الكالو) كانت ضمن مقتنيات مكتبة (آبو) في نينوى(4).