كتاب "سنوات الضياع: سيرة صفد تاريخاً و شعباً"، الذي اهداه الكاتب علي الصفدي لروح والده، قائلاً: الى روح والدي رحمه الله التى حلقت معي عبر الصفحات القادمة، وقفزت منها الى موقع الأحداث التى تدور حولها، الى اجواء مدينة صفد تأبى مبارحتها كما بارحها جسده قسرا، و
قراءة كتاب سنوات الضياع
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 9
نظر عمر الى زوجته رابحة بعيون مشفقة حانية، ربت على ظهرها ، إبتسم في وجهها إبتسامة محبة ورضى انتزعها من قلب مأساته وحزنه العميق، انها الصورة الحية المكملة لصورته، والصورة الأولى التى تتقدم ما عداها من صور مرت في حياته لأنها باتت شريكاً في تلك الحياة وجزءاً لا يتجزأ منها.
كانت رابحة والدة الفتى فارس تسير الى جانب زوجها عمر تتقاسم معه عبء العناية بالأبناء الاربعة ، فتحمل طفلها الرضيع وهو الرابع بين أبنائها بيد وتمسك بطفلها الثالث باليد الأخرى، بينما يلتصق فارس وشقيقه الثاني بابيه، تسير وهي رابطة الجأش متزنة الخطى تخفي ما تظهر، فخلف الوجه القاسي الملامح الذي يظهر صلابتها وقوة عزمها أخفت نفسية مسكونة بهموم مضاعفه لا حدود لها، فبيت الزوجية الذي جعلته من أجمل بيوت الحيلكثرة ما أدخلت اليه من إصلاحات وتحسينات، وأكثرها نظافة ولمعانا ولشدة عنايتها بأرضه وجدرانه وابوابه ونوافذه وكل ما يحتويه، والذي شهدت غرفه الفسيحة، وفناءه المستظل بدالية عتيقة، تتدلى منها قطوف العنب، أبهج سني حياتها وفرحها العامر بزوجها الهادئ الطيب، ومرحها مع أبنائها الأربعة، وارتياحها لجدتهم التي كانت مصدرا للمحبة والحنان، ذلك العش الدافئ تركته وراءها لا تعلم متى ستعود أليه، وهل سيتعرض للعبث اليهودي في غيابها؟ وأهلها في طبرية انقطعت أخبارهم عنها منذ سقوط بلدتهم ، فلا تعلم عنهم شيئا، ما الذي جرى لهم يا ترى، أين أبوها الحاج حسن وأين أمها القلقة على كل من حولها باستمرار لمحبتها لهم وتعلقها بهم وخاصة ابنتها الصغيرة رابحة البعيدة عنها؟ وهل سلم شقيقها الوحيد عثمان من ويلات القتال؟ لقد كان يصغرها بعامين وكم كانت تتشاجر معه وكم تفتقده ويأكلها قلبها عليه، وشقيقتهاالكبرى هي الأخرى انقطعت أخبارها منذ مدة، هل هم في عداد الأحياء أم في عداد الأموات؟ وهل هم في طبرية ام أجبروا على الخروج منها؟ اسئلة ألحت عليها وانهكتها، فهي لا تعرف من امرهم شيئا ولا احد حولها يعرف. فالضباب الاسود الثقيل لا يلف طريق الخروج فقط بل غطى بكثافته العقول والنفوس، وبات كل واحد ممن حولها يتلمس خطواته وكأنه في ظـلام دامس. ثمانية أعوام قضتها في صفد بعد أن جاءت أليها فتاة يافعة لا يزيد عمرها على ستة عشر عاما عندما تزوجها عمر وجاء بها الى بلدته . وكم عشقت تلك البلدة، وانتعشت بهوائها العليل، ومناخها اللطيف صيفا والبارد شتاء، وأحبت جبالها العالية المكسوة بالغابات ووديانها المتعرجة التى تكثر فيها الينابيع وجداول المياه. فكل ما حولها رائع وجميل، وبيتها عامر بالدفء والرحمة. زوجها يدللها، ووالدته تحملها على كفوف الراحة. كانت تزور أهلها بين الفينة والأخرى وخاصة في فصل الشتاء وتستقبلهم في بيتها عدة مرات في العام الواحد وخاصة في الصيف. وفي العامين الأخيرين انقلب الوضع الأمني رأسا على عقب، فاليهود تضاعف تسليحهم وقويت شوكتهم وازدادت شراستهم وكثرت اعتداءاتهم، فتبدد لأمن والاستقرار وتاه كل انسان عن الآخر، وانقطعت هي عن زيارات الآهل وانقطعوا عنها ، فقد نأى كل إنسان بنفسه خوفا من التعرض للأخطار المحدقة، وتجنب الوقوع في براثن الشر المتربص به في كل مكان.
شردت بأفكارها بعيدا تتصارع في نفسها الافتراضات والتخمينات، وكاد الطفل يسقط من يدها ، فتنبهت له في اللحظة ألاخيرة فأمسكت به بكل قوتها وشدته الى صدرها وواصلت مسيرها بصمت وذهول.